ابنك ليس مشكلة.. انت المشكلة!
صبرت طويلا على صديقى وهو يشكو مر الشكوى من ابنه ويقول لى إن أبناء هذا الزمن رضعوا من لبن العفاريت.. وتذكرت ما كان يقوله لنا الدكتور عزت راجح-أحد مؤسسى الدراسات النفسية فى مصر- ليس هناك أبناء مشكلون ولكن هناك آباء مشكلين، وحاولت أن أشرح له ذلك دون أن أوجه إليه الاتهام، مع أن الأب هو المتهم الأصلى فى الجرائم والأخطاء التى يرتكبها الشباب، وليس الأب وحده ولكن له شركاء أولهم الأم ثم بقية المحيطين به.
والعلاقة بين الآباء والأبناء لها أبعاد كثيرة، وهى تختلف من مجتمع لآخر، ففى ظروف مجتمعنا هناك عقدة قديمة من السلطة مترسخة فى النفوس، سواء كانت سلطة سياسية أو سلطة اجتماعية أو سلطة أبوية، هناك شعور دائم بأن كل سلطة مستبدة ومتعسفة حتى لو لم تكن كذلك، فى فترة من الفترات كانت قلة تحتكر السلطة والثروة وتمارس التسلط والتعالى على الناس.
وكان الناس يشعرون بأن السلطة ليست لهم وليست معهم، ولا تستمع لهم أو تهتم بهم.. وكان من نتيجة ذلك أن حدثت فجوة بين السلطة وبين الناس.. فجوة تملؤها مشاعر الخوف والتمرد أو السلبية.. هذا على المستوى السياسى والاجتماعى، وما يحدث فى المجتمع ينعكس على علاقات الناس حتى فى حياتهم الخاصة وداخل بيوتهم. فى البيت كان الأب هو الممثل لهذه السلطة المستبدة، يطلب من الجميع الخضوع والطاعة ولا يعترف بحق (الرعية) فى المشاركة أو المناقشة ويعلن فى البيت الأحكام العرفية بصفة دائمة، والنموذج هو السيد أحمد عبدالجواد فى رائعة نجيب محفوظ (بين القصرين).
وفى مرحلة كان هناك نظام فى المجتمع يسعى إلى أن يصب الناس فى قوالب واحدة، ولا يسمح باختلاف فى التفكير والرأى، وكان هذا هو حال البيت أيضاً، الأب يريد أن يشكل شخصية ابنه وفقا لمواصفات يضعها هو ولا يعترف بوجود فوارق بين القالب الذى وضعه وبين الابن، وإذا ظهر فارق يعتبر ذلك تمردا أو خروجا عن الحدود يستحق عليه الابن العقاب.
ثم أصبحنا فى مرحلة فيها الانترنت والفضائيات والسماح بتعدد الآراء والاعتراف بالحق فى الاختلاف بل والحق فى المعارضة، وهذا أيضاً انعكس على تركيبة البيت اختلف وضع الرجل والمرأة والأبناء فى الأسرة.. لم يعد الأب سلطة وحيدة مستبدة يأمر فيطاع، ولكن أصبح لكل فرد فى البيت الحق فى أن يكون له رأى خاص به، وأن يكون مختلفا عن الآخرين، وأن يتمسك بحقه فى الحرية، وهنا أصبحت سلطة الأب مهددة إذا لم يتفهم الأمر ويتعامل مع أفراد الأسرة باحترام لآرائهم، ويتحول من أسلوب الأوامر إلى أسلوب التفاهم والحوار والإقناع، ولا مانع من أن يجد أن ابنه على صواب وهو الذى كان على خطأ، فلم تعد هناك سلطة معصومة من الخطأ أو لها حصانة تمنع محاسبتها، لقد تغير العالم، فتغير المجتمع، ولا بد أن يتغير البيت، وتتغير العلاقات وأساليب المعاملة، المفاهيم القديمة التى كانت صالحة فى عصر مضى لم تعد صالحة لهذا العصر الجديد.
بعض الآباء أدركوا ذلك، وتطورت أفكارهم ومعاملاتهم وأساليب تربية أبنائهم، وبعض المدارس تغيرت فيها أساليب التربية وأقامت العلاقة بين المدرس والتلميذ على أساس التفاهم والحوار، ولكن – مع الأسف - مازال هناك آباء ومدارس لم يسايروا التطور الجديد فى أساليب التربية، ويوجهون اللوم إلى الأبناء بدلا من أن يلوموا أنفسهم.
ولا بد أن نفرق فى البداية بين السلطة والتسلط، لأن المشكلة تظهر عندما تكون ممارسة التسلط على أنها ممارسة للسلطة، والسلطة لازمة ولا غنى عنها، وهى كما يقول التربويون والسياسيون قوة معنوية، لا غنى عنها للفرد وللمجتمع وتكون سلطة صالحة إذا كانت ديمقراطية ويتقبلها الآخرون بالرضا، لأنها تعطيها المجال للنمو وللتعبير عن أنفسهم بحرية، ويستجيب الناس للسلطة عندما تعمل لصالحهم، وعندما تعمل على توحيد الأسرة – أو المجتمع- دون أن تهدد شخصية الفرد المتميزة أو تكبت أفكاره ومشاعره.. أما التسلط فهو ضغط بالقوة المادية أو المعنوية لإخضاع الفرد دون اعتبار لآرائه ومطالبه ومشاعره، وكل إنسان لا بد أن يقاوم التسلط لأنه ضد الطبيعة، ولأنه يهدد مستقبله وطبيعته وشخصيته، ويعطل إرادته، ويريد إخضاعه ليصبح مجرد آلة تسمع وتطيع وتؤمر فتستجيب، لذلك يظهر التمرد، لأن الإنسان لا بد أن يمارس حريته، ولا بد أن يقاوم كل عقبة تمنعه من ذلك، والإنسان لا بد أن يؤكد وجوده، ولابد أن يرفض إخضاعه بالقوة، وهذا الرفض قد يكون إيجابيا فى صورة تمرد وثورة، وقد يكون سلبيا بعدم المشاركة والمسايرة الظاهرية.
ماذا تريد أن يكون عليه ابنك؟
هل تريد أن يكون ابنك خاضعا وخانعا ومطيعا دائماً.. أو تريده حرا وله شخصية مستقلة تحسن التفكير والتعبير والتصرف، ويتعايش مع الآخرين وهو مرفوع الرأس وليس خانعاً أو ذليلا؟
علماء التربية يقدمون إلى الآباء نصائح كثيرة منها على سبيل المثال: لا تلق الأوامر وتطالب ابنك بتنفيذها دون مناقشة، ولكن اشرح له وجهة نظرك وأعطه الفرصة ليشرح وجهة نظره إلى أن يقتنع فيستجيب لك طوعا، وربما اقتنعت أنت بوجهة نظره فيزداد احترامه لك، لا تفرض عليه السكوت بحجة أن الأبناء يجب ألا يتطاولوا على آبائهم، ولا تبك على أيام زمان حين كان أبوك يأمرك وأنت رجل كبير وشاربك يملأ وجهك فلا تملك إلا الطاعة، ذلك زمان مضى وانتهى، وابنك يعيش فى مجتمع آخر، وسيدنا عمر بن الخطاب يقول (لا تكرهوا أبناءكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم) فلا تحاول أن تجعل ابنك مجرد آلة تستجيب لتعليماتك، ولا تظن أن الطاعة الدائمة فى كل وقت دليل على حسن الخلق، لأنها فى الحقيقة دليل على الشخصية الباهتة الضعيفة المهزومة، فلا تكن طاغية وتظن أنك بذلك تحسن تربية ابنك، فأنت فى الحقيقة تهيئه للتعامل مع الطغيان وتقتل فرديته وتنشئه بشخصية المنافق، وتقضى على روح المبادرة لديه، وتجعله غير قادر على أن يفكر ويتصرف وحده عندما ينتهى دورك ويواجه الحياة وحده.
يقول علماء التربية أيضاً إن الأسلوب الذى يستجيب له الطفل للسلطة فى طفولته سيصاحبه بقية مراحل عمره، فإذا تعود فى الطفولة على كبت مشاعره، وأفكاره، وعلى الطاعة دائماً ودون مناقشة، فسيظل مطيعا وخاضعا لكل سلطة عندما يكبر، سيصبح خاضعا للمدرس، ثم لرئيسه فى العمل، وربما لزوجته أيضاً، ولن يصل إلى مرحلة النضج والاستقلال فى التفكير والثقة فى النفس، أى أنه لن يصل إلى مرحلة ما يسميه علماء النفس «الفطام النفسى»، فهو مثل شجرة اللبلاب لا يمكن أن يقف وحده، ولا بد أن يعتمد على غيره.
هل معنى ذلك أن تترك لابنك الحبل على الغارب دون ضبط وتوجيه؟.. المسألة تحتاج إلى حكمة، ابنك يحتاج إلى التوجيه بالحوار ولا يحتاج إلى عصا أو أوامر بدون تفسير، وإذا لم يجد الابن فى البيت - والمدرسة - سلطة عاقلة وديمقراطية، فإنه سيصاب بالقلق والاضطراب وتنمو فيه روح العناد، سيصاب بالقلق لأن وجود السلطة العاقلة الديمقراطية تجعله يشعر بالأمان وعدم وجود هذه السلطة تجعله يتخبط ويتعمق لديه شعور بأنه على صواب دائماً.. لا بد أن تكون السلطة عند النقطة المتوسطة بين التسلط والفوضى.
وهناك تجربة مشهورة فى كتب التربية أجريت على ثلاث مجموعات من الأولاد، المجموعة الأولى كان القائد يرسم لأفرادها كل خطوة وكل عمل ويحدد لكل واحد منهم عمله بالتفصيل ويقوم بنفسه بمراقبتهم أثناء تنفيذ ما هو مطلوب منهم، وعلى الرغم من أن معاملته كانت مهذبة ولطيفة بدون ضغط ولكنها كانت قيادة دكتاتورية تخضع الجميع لسلطتها، والمجموعة الثانية ترك القائد لأفرادها الحبل على الغارب بحيث يعمل كل فرد ما يريد دون توجيه منه، وطبق مبدأ دع كل واحد وشأنه، وكانت قيادة فوضوية انعدمت فيها السلطة، أما المجموعة الثالث فكان قائدها يشترك مع الأولاد فى رسم خطة العمل، ويناقش معهم التفصيلات ويستمع إلى آرائهم، إلى أن توصلوا إلى قرارات محددة، وكان كل واحد فى المجموعة يستطيع أن يرجع إلى القائد ليطلب منه النصيحة ويستشيره كلما احتاج إلى ذلك، وإذا أخطأ أحد أفراد المجموعة يلفت القائد نظره إلى الخطأ دون عنف أو قسوة ويوضح معه كيفية تصحيح الخطأ، وهذه هى القيادة الديمقراطية.
وكانت النتيجة: ظهرت بين الأولاد بوادر التمرد ضد القائد المتسلط الدكتاتور وظهرت مشاعر الكراهية له، وظهرت علامات سوء السلوك، فكانوا يعاملون بعضهم بخشونة ونشبت معارك كثيرة بينهم، وظهر الإهمال فى أداء ما كُلفوا به من أعمال وأساءوا استعمال الأدوات وفقدوا الحماس للعمل.. وهذا ما نسميه شقاوة الأولاد، أو قلة الأدب، أو سوء السلوك، ولا نعترف بأنه ثمرة التربية الدكتاتورية.. وكان من نتيجة القيادة الفوضوية ظهور عدم التعاون وتعامل الأولاد مع بعضهم بالغطرسة ومحاولة كل منه السيطرة على الآخر وفرض رأيه عليه، وظهرت أيضاً مشاعر عدائية بين أفراد المجموعة، ومحاولات من كل واحد لجذب الانتباه إليه والادعاء بأنه أحسن من الجميع، وباختصار لم تنشأ علاقات سليمة داخل هذه المجموعة وأصبحت مفككة، أما مجموعة القيادة الديمقراطية فظهر لدى الجميع شعور بالرضا والإقبال على العمل واتسمت العلاقات بالاحترام وكان التنافس بدون عداء أو الكراهية، وكانت الجماعة منتجة وأنجزت ما كانت مكلفة به وحققت أهدافها على عكس المجموعتين الأخريين، وذلك لأن قائد المجموعة احترم كل فرد فيها، وأعطى الفرصة للجماعة للمناقشة واتخاذ القرار، وشجع كل واحد على أن يوجه النقد إلى نفسه وإلى الآخرين بحيث تعوَّد الجميع على ممارسة النقد وتقبله دون حساسية أو مكابرة، ونشأت بين القائد وأفراد المجموعة علاقة احترام وتعاون والنتيجة: التسلط خطأ، وترك الحبل على الغارب خطأ، والسلطة لازمة ولا غنى عنها..
والسلطة الرشيدة هى السلطة الديمقراطية.
هل فهمت يا سيد؟!