كيف نتعامل مع أوباما؟
هل كان خطاب أوباما فى القاهرة مجرد بداية لحملة علاقات عامة للتأثير عاطفيا على العرب والمسلمين؟ وهل كان الهدف منه دعوة العرب والمسلمين إلى نسيان الجرائم التى ارتكبتها الإدارة الأمريكية السابقة وحكومات إسرائيل المتعاقبة طوال أكثر من ستين عاما منذ بن جوريون حتى أولمرت.
البعض يروج لهذه الفكرة ويتعامل مع خطاب أوباما باستهانة ولا يرى فيه أملاً فى أن تغير الإدارة الأمريكية الجديدة السياسات العدوانية الاستعلائية لإدارة بوش، ويرون أن التغيير الذى وعد به أوباما فى حملته الانتخابية لن يكون تغييرا فى الاستراتيجية الامبراطورية الأمريكية، ولكنه سيكون فقط تغييرا فى لغة الخطاب السياسى الموجه إلى الشعوب والحكومات.. أى أنه سيكون تغييرا فى الشكل وليس فى المضمون.
والذين يروجون لهذه الفكرة يبدون شكوكهم فى صدق أوباما، أو فى قدرته على تنفيذ ما وعد به من اتخاذ مواقف إيجابية لإنهاء عذاب الشعب الفلسطينى وغطرسة إسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية، ويشككون أيضاً فى صدقه أو فى قدرته على تنفيذ ما وعد به من إنهاء الاحتلال المريكى للعراق وعدم إقامة قواعد عسكرية أمريكية بعد انسحاب الجيوش الأمريكية عام 2012، ويرون أن ما يقوله اليوم سيقول عكسه عندما يأتى عام 2012.
هؤلاء يشككون فى كل ما قاله أوباما، ويطالبون العرب والمسلمين بتجاهل الخطاب، وعدم أخذه مأخذ الجد.. هؤلاء هم الذين كانوا يعارضون بوش وسياساته العدائية، فكأنهم لا يريدون من أمريكا خطاب التهديد والاستعلاء ولا يريدون منها خطاب المسالمة والدعوة إلى المصالحة والتعاون فى حل المشاكل المعقدة والمزمنة التى تحتاج إلى الصبر وإلى بذل جهد كبير من الجانب الأمريكى ومن الجانب العربى والإسلامى أيضاً، والعقل يدعونا أن ندرك أن انتظار الحل لكل المشاكل دون أن يتحمل العرب والمسلمون النصيب الأكبر من المسئولية لتحقيقه هو نوع من انتظار المستحيل، لأن أمريكا لن تساعد من لا يريد أو من لا يستطيع أن يساعد نفسه، ولن تقدم الدولة الفلسطينية جاهزة على طبق من ذهب للفلسطينيين وهم على هذه الحالة من الانقسام، وعدم الاتفاق على تصور موحد للحل، ولا الاتفاق على صوت واحد يتحدث باسمهم ولديه الصلاحية والشرعية لاتخاذ القرار باسم الشعب الفلسطينى، وهم الذين يقدمون لإسرائيل الذريعة للتملص من الحل بادعاء أنها لا تجد صوتا واحدا يمثل الفلسطينيين.
خطاب أوباما لم يكن مجرد خطاب عاطفى للتأثير على المشاعر، وتحويل الأعداء والكارهين لأمريكا إلى أصدقاء.. هو فى حقيقته إعلان لسياسة أمريكية جديدة، ومواقف مختلفة من القضايا المتعلقة بالعالمين العربى والإسلامى. هو خطاب مصالحة، وإعلان لحسن النوايا، ومبادرة لتحسين العلاقات على أساس أن هذا التوجه الجديد - الذى يختلف كثيرا عن توجهات بوش وإدارته - هو الذى يضمن للولايات المتحدة حماية مصالحها من ناحية، ويحقق لها الأمن ويقضى على عوامل الكراهية والعداء التى أنتجت الإرهاب وهددت مصالحها، وفى نفس الوقت فإن هذا التوجه يسعى إلى مراعاة مصالح الدول والشعوب العربية والإسلامية، لأن إدارة اوباما أدركت أن حماية مصالح أمريكا لا يمكن أن تكون على حساب إهدار مصالح وحقوق العرب والمسلمين، ومن الواضح أن أوباما يمثل عودة العقل والواقعية إلى السياسة الأمريكية.. وهكذا يبدو حتى الآن وليس لدينا ما يدعو للشك فى ذلك.
***
الخطاب إذن ليس - كما يرى البعض - مجرد حيلة سياسية لكسب تعاطف العرب والمسلمين تحت ضغط المرحلة التى تمر فيها الولايات المتحدة بمأزق تاريخى، أزمة اقتصادية تهدد كيانها ومكانتها وأسس قوتها، وفشل عسكرى فى العراق وأفغانستان، وتهديد طالبان لأمن واستقرار باكستان، وعجز حكومتها عن فرض سيطرتها على جزء من البلاد دون خوض معارك عسكرية ضارية وخسائر كبيرة.. وبعد سنوات الحرب الأمريكية فى أفغانستان التى أنفقت فيها مئات المليارات من الدولارات وفقدت الكثير من أرواح جنودها، لم تستطع القضاء على طالبان أو على تنظيم القاعدة.. ولم يحقق بوش وعوده بالقبض على بن لادن حياً أو ميتاً.
حقيقة أن الولايات المتحدة أصبحت فى مأزق استراتيجى، وقد تكون قادرة على الخروج من هذا المأزق، ولكن هذا الخروج سيكون أسرع وأفضل إذا كسبت تعاون المسلمين والعرب معها - بدلاً من معاداتهم لها - وخصوصا حلفاءها وأصدقاءها التقليديين الذين أوشكت أن تفقدهم بسبب غباء إدارة بوش.
***
ولماذا لا نتعامل مع القضايا التى طرحها أوباما بجدية وحسن نية، وندخل مع إدارته فى حوار نقبل فيه ما يمكن أن نقبله ونرفض ما لا نقبله ونقدم رؤيتنا كما بادر هو بتقديم رؤيته.. ماذا نخسر إذا سرنا مع أوباما لنرى إن كان صادقا وقادرا على تنفيذ وعوده، وفى الخطاب قضايا لا نختلف معه فيها مثل رفض العنف، والتشدد، ومثل قراره بانسحاب القوات الأمريكية كلية من العراق، ومثل ضرورة احترام حرية الرأى وممارسة الديمقراطية والتعددية السياسية والحرية الدينية، ومثل احترام حقوق المرأة، ومن الممكن أن تكون هذه المساحة المشتركة بداية للتفاهم فى نقاط جاءت فى خطابه تحتاج إلى ايضاحات من جانبنا، مثل إشارته إلى حقوق الأقليات الدينية، واعتبار الأقباط فى مصر من هذه الأقليات، وهذه الإشارة تعكس عدم إدراك لتركيبة الشعب المصرى، فهو شعب واحد، ليس فيه تعدد الأصول والأعراق مثل الشعب الأمريكى مثلاً، ولكن المسلمين والأقباط من أصول واحدة ولا تستطيع أن تفرق بين المسلم والقبطى، وأذكر أن وفدا جاء إلى مصر من بيت الحرية فى أمريكا «فريدم هاوس» وقابل البابا شنودة لبحث مشاكل الأقباط فى مصر، فقال لهم البابا شنودة إن مشاكل الأقباط فى مصر مثل مشاكل المسلمين، والأقباط ليسوا أقلية، ولكنهم جزء لا يتجزأ من نسيج واحد، وأنتم تتحدثون عن الأقباط كأقلية وفى أذهانكم قضية الاضطهاد الذى يلاقيه الأمريكيون من أصول أفريقية باعتبارهم أقلية، ولكن الوضع مختلف فى مصر، فالأقباط ليست لهم أحياء خاصة مثل حى «هارلم» فى نيويورك الذى يتجمع فسه السود، وستجد الأقباط فى كل مدينة، وكل قرية، وكل حى، وفى كل بيت مع المسلمين.. وطبيعى أن تحدث احتكاكات بين قبطى ومسلم، أو بين مسلم ومسلم، أو بين قبطى وقبطى، فهذه أمور طبيعية بين البشر، وفى كل المعارك التى خاضتها مصر كان المسلمون والأقباط معا ولم يفرق العدو بين دم المسلم ودم القبطى، مثل هذا الفهم لوضع الأقباط لا يمنع وجود مطالب لهم، وهى مطالب مشروعة وليس هناك ما يمنع من مناقشتها وتلبية ما يمكن تلبيته اليوم وما يمكن تلبيته غدا.. وقد استجابت الدولة لكثير من مطالب الأقباط، ومن الطبيعى أن تكون لهم مطالب أخرى، وحاجة من عاش لا تنقضى كما كان يقول الشاعر القديم، ولكن بعض العناصر من أقباط المهجر تستغل وجودها فى مناخ الحريات فى الولايات المتحدة وأوروبا والمنابر المفتوحة والإنترنت والإعلام وجماعات الضغط الصهيونية المعادية لمصر وللعرب.. يستغلون هذه الحرية فى تضخيم الأمور ظنا منهم أن هذه هى الوسيلة لتقديم خدمة للأقباط فى مصر، وربما لشعورهم بالتخلى عن أهاليهم، ويريدون إثبات ولائهم للأقباط وليس للوطن.. وإذا كانت هناك أخطاء فردية أو مؤسسية فإن حلها ممكن فى إطار الجماعة المصرية وبدون استعداء القوى الأجنبية.
***
أما ما يأخذه البعض على خطاب أوباما من تأكيده على العلاقة الاستراتيجية التى لا يمكن كسرها مع إسرائيل، فهم واهمون إذا تصوروا أنه يمكن أن يقول غير ذلك. فالعلاقة بين أمريكا وإسرائيل علاقة مصلحة مشتركة، فأمريكا محتاجة إلى وجود إسرائيل كقاعدة متقدمة فى قلب العالم العربى لضمان مصالحها، وإسرائيل محتاجة إلى الحماية والمساعدات والدعم الاقتصادى والسياسى والعسكرى من أمريكا.. وأى تصور لإمكان كسر هذه العلاقة هو نوع من الوهم.. وأوباما صادق فيما قال، ولكن يجب أن نرحب بما قاله عن معاناة الشعب الفلسطينى، وأن الوضع الحالى لا يمكن أن يستمر، وأن على إسرائيل وقف البناء فى المستوطنات، وقبول الحل على أساس دولة فلسطينية ودولة إسرائيلية.. وهو بذلك أول رئيس أمريكى - بل أول مسئول أمريكى بعد كارتر - يتحدث علنا عن معاناة الفلسطينيين، أى عن الاعتداءات الإسرائيلية عليهم، ألا يستحق أن نرحب بهذه الروح الجديدة ونسعى إلى زيادة تفهم الإدارة الأمريكية لقضايانا ما دامت قد أعلنت عن استعدادها لذلك؟
أما الرافضون لكل شىء، ولكل زعيم، وفى كل وقت فدعهم فى رفضهم يعمهون!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف