أوباما و يده الممدودة للمسلمين
من الطبيعى أن يوجه الرئيس الأمريكى باراك أوباما رسالة إلى المسلمين، وأن يوجه هذه الرسالة من القاهرة، قلب العالم الإسلامى، ومن الطبيعى أن تعكس رسالته إدراكا بأن هناك خطأ ارتكبته الإدارة الأمريكية فى علاقاتها مع العالم الإسلامى، وأدى ذلك إلى تعقيدات فى علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب الإسلامية، أكبر وأعمق من التعقيدات مع الحكومات فى الدول الإسلامية.. ومن الطبيعى أن يتحدث إلى المسلمين رئيس أمريكى عاقل، ومثقف ثقافة تجعله يعرف قيمة الحضارة الإسلامية، وقيمة التاريخ الإسلامى، ويتفهم أن انحراف بعض المسلمين لا يمكن اعتباره انحرافا محسوبا على الدين الإسلامى، كما أن انحراف بعض المسيحيين أو اليهود لا يمكن أن يعتبر انحرافا من عقيدتهم الدينية.
من الطبيعى أن يمد أوباما يده إلى المسلمين، ويعلن فتح صفحة جديدة للعلاقات الأمريكية تجاه العالم الإسلامى بعد سلسلة الحماقات والأخطاء التى ارتكبتها إدارة بوش، وساد فيها فكر المحافظين الجدد العدوانى.. من الطبيعى أن يوجه الرئيس الجديد رسالة يفهم منها المسلمون أن عهد الغطرسة الأمريكية قد انتهى، وأن التغيير الذى وعد به أوباما يشمل تغيير النظرة إلى الإسلام والمسلمين، ويحاول برسالته أن يصلح ما أفسده بوش وكثير من القادة والسياسيين، ورجال الدين فى الغرب، وحتى بابا روما الذى أعلن يوما عداءه للإسلام باتهامه بأنه دين شرير يدعو إلى العنف ولم ينشر الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام إلا بالسيف.
وخطاب أوباما ليس المبادرة الوحيدة، وهو فى الحقيقة ذروة للخطوات التى اتخذها لتحسين العلاقات مع العالم الإسلامى، ففى خطاب تنصيبه - أى فى اللحظة الأولى التى بدأ فيها ولايته - قال إن الولايات المتحدة ليست مسيحية فقط، ولكنها أمة من مسيحيين ومسلمين ويهود وهندوس وغير مؤمنين، وأن هذه الأمة تعود لتبعث من جديد من عصر الظلام، وكانت هذه الكلمات رسالة.. فهى أول مرة يقوله فيها رئيس الولايات المتحدة إن الأمة الأمريكية متعددة الديانات، وأن كل الديانات على قدم المساواة، وأن المسلمين جزء من تكوين هذه الأمة، وكان بوش يردد أن حضارة أمريكا حضارة مسيحية ويهودية، دون ذكر لديانات أخرى لها وجود ضمن العناصر التى تتكون منها هذه الأمة.. وفى نفس الخطاب حرص أوباما على أن يقول للعالم الإسلامى:«إننا نسعى لسلوك طريق جديد يستند على الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة»، ويقول أيضاً:«لم نعد نحتمل الشعور باللامبالاة بأولئك الذين يعانون خارج حدودنا، كما لم نعد نستطيع استهلاك موارد وخيرات العالم بدون اهتمام لنتائج وانعكاسات ذلك، ولأن العالم قد تغير فعلينا أن نتغير نحن أيضاً».
***
هذا كلام لم نسمعه من أى رئيس أمريكى.. كلام يعنى التزاما شخصيا من الرئيس أوباما نابعا من قناعة وإيمان بأن مصالح الولايات المتحدة أصبحت مهددة، وصورتها فى العالم الإسلامى صارت مشوهة، ومشاعر الكراهية والعداء تزداد فى العالم الإسلامى نتيجة للسياسة الأمريكية العدوانية تجاه هذا العالم الإسلامى.. مصالح أمريكا أولاً هى التى تحرك مواقف أوباما، ومصالح أمريكا تتحقق إذا قامت أمريكا بتغيير لغة الحوار والتعامل مع العالم الإسلامى بأسلوب آخر تبدى فيه بالأقوال والأعمال استعدادها للتفاهم والتعاون والتعامل باحترام مع المسلمين فى الداخل والخارج.
ولقد عبر أوباما عن هذا التوجه الأمريكى الجديد فى خطابه فى تركيا وفى حديثه إلى قناة العربية الفضائية وفى رسالته إلى الشعب الإيرانى بمناسبة عيد النيروز، مما يدل على صدق نواياه فى تحقيق مصالحة حقيقية مع العالم الإسلامى، وإدراك حقيقى بوجود أرضية مشتركة بين أمريكا والعالم الإسلامى ولا يمنع ذلك من وجود خلافات فى الرؤى فى بعض القضايا.
ولم يصل أوباما إلى هذه القناعة من فراغ، ولكن على أساس دراسات عديدة أثبتت له أن مشاعر المسلمين نابعة من إحساسهم بأن الولايات المتحدة لا تكن الاحترام لهم، وتريد التحكم فيهم، ولا تؤيد حقهم فى تقرير مصيرهم، وأن هذه المشاعر السلبية تعمقت وتأكدت لديهم بعد الجرائم التى ارتكبتها الولايات المتحدة فى العراق وأفغانستان، وهى جرائم حرب طبقا للقوانين الدولية، وتضاف إليها ما يلمسه المسلمون من انحياز الولايات المتحدة لإسرائيل، ودعمها الزائد عن الحد بالأموال والأسلحة، وبالدعم السياسى والحماية الزائدة لتمرير جرائمها وعدوانها المستمر على الفلسطينيين واستمرار اغتصاب أراضيهم، وإقامة المستوطنات عليها للإسرائيليين وبناء الأسوار التى تعزل الشعب الفلسطينى فى القرى والمدن حتى حولتها إلى سجون دائمة، وهذا وضع ليس له مثيل فى العالم.. ومع ذلك فإن التأييد الأمريكى مستمر.. تأييد للعدوان والاغتصاب والاعتقال والطرد والحرمان من ضرورة الحياة.. فهل كان من الممكن أن تطلب الولايات المتحدة صداقة المسلمين مع استمرار مواقفها هذه واستمرار اتهامها للإسلام والمسلمين بالإرهاب.
***
وجاء أوباما إلى القاهرة، وكان من الطبيعى أن يوجه رسالته وأن يطلق مبادرته من القاهرة عاصمة مصر لثقلها الثقافى والدينى فى العالمين العربى والإسلامى، وعاصمة التسامح الدينى والإسلام الوسطى الذى يرفض التشدد والتعصب والإرهاب ويدعو إلى السلام والحوار.
جاء أوباما لتكون رسالته بداية لنهاية خرافة صراع الحضارات التى سادت فى الولايات المتحدة وفى الغرب، وهى من صناعة التيار المتعصب من المحافظين الجدد.. ولم تستمع الإدارة السابقة إلى ما أعلنه المسلمون فى أنحاء العالم من رفضهم لمبدأ الصراع، ودعوتهم إلى الحوار والتعاون، وتبادل المنافع بين الحضارات، بعد أن قامت نظرية صراع الحضارات تحديات صعبة أمام معالجة غضب المسلمين تجاه أمريكا، وزادت من حدة المخاوف المرضية من الإسلام (الإسلاموفوبيا).
أقر أوباما أن الولايات المتحدة ارتكبت أخطاء، وأكد أنه سيعمل على الإصلاح وتحسين العلاقات، وكرر الإشارة إلى أنه عاش فى دول إسلامية وله أقارب مسلمون، وقال إن مهمته أن يوصل إلى العالم الإسلامى أن الأمريكيين ليسوا أعداءهم، وأن الأمريكيين يرتكبون أخطاء فى بعض الوقت ولا يدعون الكمال، وأن أمريكا حريصة على استعادة احترام العالم الإسلامى لها، وقد احترمناه حين دعا الشعوب الإسلامية إلى أن تحكم عليه بأفعاله، وموقف أوباما من القضية الفلسطينية يستحق التقدير، فهو الرئيس الوحيد الذى أدرك أن هذه القضية هى أساس الصراع الإسرائيلى، وأن التوصل إلى حل عادل ينهى العذاب والظلم والمعاناة عن الفلسطينيين هو الوسيلة الوحيدة لضمان أمن إسرائيل وتحقيق الاستقرار والسلام فى الشرق الأوسط، وإزالة السبب الرئيسى لمشاعر العداء التى تنبت الإرهاب فى المنطقة وتنشره فى العالم نتيجة الكبت والإحساس بانعدام العدالة.. إقامة الدولة الفلسطينية على أساس عادل يحقق أمن الولايات المتحدة أيضاً.
ونفهم أوباما أكثر عندما نتأمل فى عبارة قالها فى أحد أحاديثه: سيحكم عليك التاريخ بما تبنيه وليس بما تدمره.. وهى عبارة تلخص بدقة موقفه وقناعته.. بوش دمر وسيحكم عليه التاريخ، وربما تنجح محاولات محاكمته وبعض أركان حكمه.. وأوباما يريد أن يكون حكم التاريخ عليه مختلفا كصانع للسلام العالمى وللعدالة والحرية للشعوب، وإذا نجح فى ذلك فسيكون قصة نجاح كبرى يدخل بها التاريخ مع القادة العظام.
***
وندرك صدق نواياه بمبادرته بتعيين باحثة أمريكية مسلمة من أصول مصرية (داليا مجاهد) فى مجلسه الاستشارى الخاص بالأديان لتكون أول مسلمة محجبة تشغل منصب مستشار الرئيس للشئون الإسلامية، وعبر بذلك عن حرصه على التعرف على تفكير المسلمين، وماذا يريدون من الولايات المتحدة؟ وذلك فى إطار برنامج أعلنه أوباما لتوظيف المسلمين فى البيت الأبيض أطلق عليه (برنامج العمل الإيجابى).
من الطبيعى بعد كل ذلك أن تفتح مصر ذراعيها لاستقبال أوباما الرئيس الأمريكى، المسيحى، البروتستانى، بأصوله الإسلامية - الأفريقية، وبفكره المستنير، وروحه المتسامحة، ورغبته فى التغيير.. ويبقى علينا أولاً أن ننتظر أعماله بعد لمس الترحيب من المسلمين برسالته، وعلينا ثانيا أن نحشد قوى المسلمين للتعامل مع هذه المتغيرات، والعبرة فى النهاية بالأعمال من الجانبين


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف