كما هي العادة, لم يستوقف المتشائمين من نتائج قمة عمان إلا نصف الكوب الفارغ, ولم يركز المتفائلون إلا علي النصف الممتلئ, ومازلنا في انتظار صوت المعتدلين ليتحدثوا بإنصاف وموضوعية عن الإيجابيات والسلبيات دون مخالطة.. وويل للمتشائمين يوم يتحقق النصر للمتفائلين.
المتشائمون الدائمون في العالم العربي يظنون أن العالم العربي يمكن أن يخلو من المشكلات, وليس في الدنيا دولة أو إنسان بلا مشكلات, وتصور إنهاء جميع المشكلات والقضايا المعلقة بين الدول العربية في اجتماع واحد أو اثنين هو تفكير أقرب إلي الرومانسية السياسية أو المراهقة السياسية.
المتشائمون لم يجدوا في نتائج قمة عمان إلا أنها لم تتوصل إلي حسم الأزمة بين الكويت والعراق وتوابعها في المنطقة, دون أن يمتد نظرهم إلي طبيعة هذه الأزمة وطبيعة الأطراف المحلية والإقليمية والخارجية المؤثرة فيها, كما لم يقدروا علي إدراك التقدم النسبي الذي تحقق بأكثر من خطوة من جانب الكويت, ولم يبق سوي خطوة واحدة ـ ليست مستحيلة ـ من جانب العراق.. إذن فقد حدث تقدم نحو الأمام يدعو إلي الأمل في حل هذه الأزمة, وقيام مصالحة عربية حقيقية قائمة علي التراضي, وحسن النوايا, والشعور بالأمن, وتحقيق الاستقرار في المنطقة. وتحقيق هذا الأمل أصبح ممكنا بالجهود التي سيبذلها العاهل الأردني وفقا لتكليف القمة, أو في القمة المقبلة في لبنان بعد سنة واحدة, وأزمة عمرها عشر سنوات إذا شهدت تحسنا ملموسا في سنة وأمكن حلها حلا كاملا في سنة أخري, فإن ذلك يكون إنجازا لا يستهان به.
أما المراهقين السياسيين, فقد انتقدوا القمة, لأن القادة العرب لم يقرروا إعلان الحرب دفاعا عن الشعب الفلسطيني, الذي يتعرض لحرب عدوانية من جيش الاحتلال الإسرائيلي.. وهؤلاء بالذات هم الذين لم يحاربوا أبدا, ولن يحاربوا أبدا.. ولا يعرفون معني الحرب.. وقدراتهم الفعلية لاتصل إلي حد إدراك طبيعة الصراع العربي ـ الإسرائيلي وهي طبيعة معقدة, بل شديدة التعقيد, وهو صراع لا يقتصر علي العرب والإسرائيليين فقط. وقضية الحرب والسلام في منطقة الشرق الأوسط قضية تتعلق باستراتيجية أكثر من دولة خارج الشرق الأوسط,, كما تتعلق بالسلام العالمي, وبمصالح قوي ودول عظمي.
جنرالات المقاهي ظاهرة معروفة في العالم العربي, وكل واحد منهم لا يعجبه كل قادة السياسة والحرب في العالم, ويري أنه وحده العبقري الذي يملك الحل السحري لكل مشكلات العالم.. والحقيقة الأولي التي يعرفها حتي الأطفال الآن هي أن السياسة فن تحقيق الممكن وليس طلب المستحيل.. فكيف يمكن التقليل من قيمة الحضور وتقارب المواقف, أو بقرار الدول العربية مجتمعة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أي دولة تنقل سفارتها إلي القدس.. أو بقرار الدول العربية بالسعي مجتمعة للمطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين, مع ما في ذلك من هجوم سياسي يستند إلي القانون الجنائي الدولي لكشف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها بعض قادة إسرائيل. وكيف يمكن التقليل من أهمية الموقف العربي الموحد بدعم الانتفاضة الفلسطينية.. وبذلك فهي ليست انتفاضة فلسطينية فقط, ولكنها انتفاضة عربية.. والفلسطينيون فيها يعبرون عن صمود الشعب العربي وإصراره علي رفض العدوان الإسرائيلي المستمر.. والدعم لم يكن سياسيا فقط ولكنه كان مرتبطا بالدعم المالي.
ثم كيف يمكن التقليل من أهمية الاتفاق علي عقد قمة اقتصادية, تسبقها دراسات موسعة ومعضلة, لإنشاء السوق العربي ويتحقق بذلك التكامل الاقتصادي العربي الذي يمثل طوق النجاة الوحيد للعالم العربية أمام المخاطر غير المحدودة التي تأتي بها العولمة وما ينطوي عليه النظام الاقتصادي العالمي الجديد من تهديد شديد لمستقبل ومصير العالم العربي..
المتشائمون أصاب العمي عيونهم فلم يروا مدي أهمية القرار بعقد القمة العربية دوريا, لأن عقولهم لم تتفهم طبيعة العراقيل التي كانت توضع أمام أي قمة عربية تعقد ولو كل عشر سنوات.. وهاهم القادة العرب يواجهون هذه العراقيل وينتصرون عليها, ويقررون تجاوز الحساسيات والمشكلات والعقد النفسية التي تحكم العالم العربي الآن, لكي يلتقوا لبحث كيفية الخروج من الحصار المفروض عليهم, وكيفية تغيير أوضاع الفقر والتخلف والبطالة في العالم العربي, وكيفية تطوير الصناعات والزراعة واستصلاح المساحات الشاسعة من الأراضي.. وعندما يتحقق ذلك, فإن العالم العربي قادر علي إنتاج كل احتياجاته من الغذاء والمعدات والتكنولوجيا الحديثة, بمجرد أن تتكامل القدرات المبعثرة في أنحائه.. سواء كانت قدرات مالية واقتصادية أو كفاءات علمية وإدارية, أو قدرات في نظم وأساليب العمل.
للمتشائمين عذر فيما يقولون وبصوت عال يريدون به غرس الشعور باليأس وإحباط الروح المعنوية بين قادة وشعوب العالم العربي.. ولكن التقدم, لا يتحقق بأصوات وصيحات المتشائمين.. ولكنه يتحقق بأيدي وبأعمال المتفائلين.. وهؤلاء هم القادرون علي أن يضيفوا إلي نصف الكوب الممتلئ إلي أن يكتمل.