لماذا يدمر بعضنا البعض ؟!

كان المتوقع بعد نجاح الثورة أن يتفرغ الجميع لبناء المجتمع الجديد، مجتمع العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ولكن ما يحدث الآن على خلاف ذلك، فهناك شعور لدى البعض بالرغبة فى التدمير، وهى ظاهرة غريبة على المجتمع المصرى الذى تميز بالمسامحة على مر العصور، والملاحظ أن هذه الظاهرة تتمثل فى فئات وعناصر قد تكون محدودة العدد ولكنها قوية التأثير فى نفوس عامة الناس، والملاحظ أيضا أن هذه الظاهرة غير موجودة لدى شباب الثورة الذين دفعوا ثمن نجاح هذه الثورة من دمائهم وحريتهم ويشعرون بأن ثورتهم لم تكتمل ولم تهتد إلى الطريق الصحيح لتحقيق أهدافها.وكان المتوقع أن يتوحد أصحاب الهدف الواحد للسير معا لاستكمال مسيرة الثورة، ولكن الذى حدث أن الخلافات والانقسامات بددت جهود قادة الأحزاب التى تقول إن هدفها هو هدف الثورة، وإن ظهروا وكأنهم كيان واحد ولكنهم «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى» وعدم تجمعهم على كلمة واحدة وتحت قيادة واحدة وأهداف واحدة ومحددة أضعف تأثيرهم فى الشارع، ولم يعد حزب من هذه الأحزاب المتصارعة قادرًا على الادعاء بأنه يمثل «كل» أو «أغلبية» المصريين. إلى جانب هؤلاء ظهرت جماعات من الغوغاء تحمل الأسلحة وتشعل زجاجات المولوتوف وتدمر المنشآت الخاصة بالعدالة والأمن والسياحة وآخرها محكمة باب الخلق التى شهدت محاكمات تاريخية منها محاكمة أنور السادات وزملائه فى قضية مقتل أمين عثمان، ودمر الحريق ملفات القضايا والتحقيقات فى الدور الخاص بالنيابة.
وفيها وثائق ومستندات وشهادات وأدلة على جرائم ارتكبت فى حق المجتمع المصرى.
***
وعلى صفحات الصحف وعلى الهواء فى الفضائيات المصرية تشهد صراعات يظهر فيها أن كل واحد ممن يقال إنهم مفكرون أو باحثون أو سياسيون، وكأنه تجرد من قدرته على الحوار والإقناع بالمنطق إلى تحويل الحوار إلى «خناقة» أشبه بخناقات الحوارى ولا يتورع بعضهم عن استخدام الفاظ كانت توصف بأنها «الفاظ بذيئة» أو «الفاظ سوقية» أو على الأقل «الفاظ نابية» ويبدو الحال وكأنه قد «انفلت العيار» وفقد كثير من «النخبة» قدرتهم على «الضبط الذاتى». ولم يعد يدهشنا آلاف البلاغات فى النيابة وعشرات القضايا فى المحاكمة بقضايا «السب والقذف» التى تقدم بها سياسيون ضد سياسيين وشخصيات عامة ضد شخصيات عامة وصحفيون ضد صحفيين..وأصبح عنوان فيلم يوسف شاهين «هى فوضى» هو عنوان المرحلة!
***
وصلت محاولات التدمير إلى محاولة تدمير الأخلاق التى كانت من أبرز سمات الشخصية المصرية فانتشر التحرش الجنسى بصورة تدعو للخجل، وانتشر استخدام الأسلحة البيضاء والخرطوش فى المعارك البسيطة التى كانت تنتهى بالسلام والمصالحة والاعتذار فأصبحت تنتهى فى أقسام الشرطة والمستشفيات والمحاكم الجنائية (!) ومن يصدق أن يأتى يوم ونرى معارك تسيل فيها الدماء فى داخل الجامعات بين جماعات من الطلبة، ومن يصدق أن يقتحم طلبة إحدى الكليات مكتب عميد الكلية ويعتدون عليه بالضرب لأن نتائج الامتحانات لم تعجبهم (!)
وفى تشخيص للحالة قالت الدكتورة نسرين بغدادى مديرة المركز القومى للبحوث الاجتماعية إن الظاهر أمام العيون أن معدلات العنف زادت فى الشارع المصرى وفى مواقع العمل وحتى فى البيوت، سواء العنف اللفظى أو العنف الجسدى أو عدم قبول «الآخر» ورفض مجرد الاستماع إليه، وعدم القدرة على التسامح، وازدياد حالة التربص، واعتقاد كل واحد أنه يمتلك الحقيقة وحده وكل من يختلف معه على ضلال، وما يثير القلق والخوف على مستقبل البلاد ما نراه من الانفلات الفكرى، والنظرة الدونية للمرأة، فضلا عن التعصب للرأى إلى حد الهوس وانفجار نوبات الغضب المكبوت من حين لآخر ولأسباب واهية.
هذا العنف أصبح أشبه بنوبات من الهياج لا يحتاج إلى البحث عن أسبابه وعلاجه؟
أما العنف السياسى فهو موجود فى مصر منذ السبعينيات وربما قبل ذلك، يظهر موجات ثم يتراجع، وعلماء الاجتماع حذروا من أن هذا النوع من العنف موجود لاستمرار وجود أسبابه وهو شعور البعض بالعزلة الاجتماعية وبأنه ليس أمامهم سبيل لتحقيق مطالبهم إلا بالعنف سواء كانت مطالبهم مشروعة أو غير مشروعة، وسواء كان تنفيذها ممكنا أو مستحيلًا أو يمكن تنفيذها عندما تتوافر القدرة على ذلك. ومشكلتهم أنهم لا يجدون من يستمع إليهم ويتحدث إليهم ويبدى اهتماما بشكواهم.
***
وأخطر من كل ذلك فى رصد مديرة مركز البحوث الاجتماعية انتشار الأسلحة واستخدامها، وضعف هيبة الدولة، والشعور بعدم قدرتها على السيطرة على مصادر تهريب وبيع الأسلحة التى وصلت إلى حد تهريب الصواريخ المضادة للطائرات أو للدبابات (!) ناهيك عن أطنان المخدرات المدمرة التى يتم ضبط بعضها ويتسرب إلى الداخل بعضه الآخر.
والنتيجة تدهور الاقتصاد مع تدهور الأمن وتحول الجميع إلى اساتذة فى النقد والتجريح، ولم يعد احترام الرأى الآخر من الفضائل التى تتحلى بها النخبة السياسية. والحقيقة أن النخبة السياسية أصيبت بمرض عضال هو رغبة كل واحد فى الانفراد بالعمل والقيادة وتحقيق حلم الزعامة، والسعى إلى القيادة والزعامة ليس عيبا، من حق كل منهم أن يفكر ويعمل لذلك ولكن على الجميع أن يؤمنوا ويعملوا بالمبدأ القائل «عش ودع غيرك يعيش» وليقدم كل منهم برنامجه وفكره وينزل إلى الناس فإذا اقتنعوا به صار زعيما وإذا لم يقتنعوا فعليه أن يصلح من أسلوب عمله وتعاطيه أو أن يقبل بالنتيجة..ولكن كلهم يصرخون ويعترضون وينتقدون ولا أحد يقدم برنامجا مدروسا لكيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية أو لإصلاح التعليم الذى وصل إلى درجة من التدهور تهدد مستقبل مصر وقدرتها على الحياة بكرامة فى عالم يشتد فيه الصراع على إنتاج المعرفة والتفوق فى انتاج التكنولوجيا الحديثة..النخبة السياسية بدلًا من بذل الجهد لإعداد مثل هذه البرامج تلجأ إلى وسائل سلبية تؤخر المجتمع ولا تساعد على تقدمه..ازدادت فيها القدرة على قلب الحقائق والعداء للجميع والتحريض على الكراهية والعدوان على مؤسسات الدولة، وتشجيع كافة الفئات على المطالبة بحقوق وامتيازات مالية يعرف الجميع أن الدولة غير قادرة على تلبيتها إلا باللجوء إلى الاستدانة من الخارج، والديون ليست الحل لتلبية المطالب الفئوية، الحل هو العمل والانتاج لزيادة الدخل القومى وبالتالى زيادة قدرة الدولة على إعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم، والأخطر من ذلك أن المجتمع المصرى لم يعد فيه من يعترف بالخطأ، ولم يعد فيه من لديه استعداد لممارسة النقد الذاتى، ووصلت درجة العناد والتشبث بالرأى إلى درجة تجعل كل مجموعة، وربما كل فرد، يشعر بأنه دولة مستقلة ذات سيادة (!)
***
صحيح أن الخريطة الاجتماعية فى مصر تغيرت، ونفوس الناس تغيرت، البعض يقول إن السبب فى ذلك انتشار البطالة إلى درجة غير مسبوقة، والبعض يرى أن السبب انتشار العشوائيات وتزايد معدلات الفقر وأزمة الإسكان التى تجعل ملايين المصريين عاجزين عن الحصول على مسكن آدمى، وملايين الشبان والشابات غير قادرين على تدبير الحد الأدنى من مستلزمات الزواج وتكوين أسرة، ويضاف إلى كل ذلك الشعور بالاختناق عندما يحتاج هؤلاء الفقراء إلى العلاج فيتعاملون مع المستشفيات الحكومية التى تدهورت أحوالها، ويحلمون بأن يتعلم أبناؤهم ينجدون المدراس لا تعلم الأبناء ولكن التعليم للقادرين على دفع تكلفة الدروس الخصوصية وهى تكلفة لا يقدر عليها حتى أبناء الطبقة المتوسطة وعلى حساب التنازل عن بعض الضروريات.
***
القضية لخصها أستاذ العلوم السياسية الدكتور معتز بالله عبد الفتاح فى مقال ختمه بقوله: «مع الأسف نحن ندمر بعضنا البعض ونحن لا ندرك أننا مصر، أنت مصر، وأنا مصر، مصر هى أخى المسيحى، وأختى اليسارية، وخالى السلفى، وعمى الإخوانى، وجارى الليبرالى، فلماذا لا ندرك ذلك ؟
صحيح.. لماذا لا ندرك ذلك؟!

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف