من الغريب أن يفكر البعض في العودة مرة ثانية الي اللجوء الي البنك الدولي, لكي يضع الاقتصاد المصري تحت رقابته, ويقدم لنا روشتة علاج جديدة لتجاوز الأزمة الاقتصادية الحالية, بالرغم من أن هناك أكثر من دراسة وطنية فيها تشخيص كامل للأزمة, وفيها أيضا روشتة العلاج.
وقد طرح مجلس الشوري في تقريره الأخير تصورا متكاملا لمشكلات الاقتصاد المصري, ووضع برنامجا لعلاجها أفضل مما يمكن أن يقدمه البنك الدولي, لأنه برنامج وطني يراعي البعد الاجتماعي والبعد الإنساني, ويتلاءم مع ظروف وطبيعة المجتمع المصري.
فالمشكلات محصورة في: أزمة السيولة والركود.. وعدم استقرار سعر الصرف.. وانخفاض رصيد الحكومة من العملات من22,5 مليار الي14 مليار دولار.. واتجاه مؤشر سوق المال الي الانخفاض, بحيث انخفضت القيمة السوقية للأوراق المالية من138,9 مليار جنيه آخر يناير2000, الي120,8 آخر نوفمبر, واستمر الانخفاض في ديسمبر الماضي.. وزيادة العجز في موازنة الدولة وزيادة العجز في ميزان المدفوعات, والميزان التجاري بعد أن كان ميزان المدفوعات يحقق فائضا بالمليارات في نهاية الثمانينات والنصف الأول من التسعينات.. بلغ العجز في الميزان التجاري12 مليار و524 مليون دولار عام98, وانخفضت الصادرات من5128 مليون دولار عام97 الي4445 مليون دولار عام99.. وزاد المشكلة تعقيدا الفساد في الجهاز المصرفي الذي أدي الي زيادة الديون المعدومة والمشكوك فيها, وهروب بعض المقترضين الي الخارج.. وأضيف الي هذه العوامل ارتفاع أسعار خدمات المرافق العامة, التي تم تحويلها الي شركات خاصة في الاتصالات والكهرباء, حتي أن شركات الاتصالات وحدها حصلت في العام الأخير علي أربعة مليارات جنيه من المواطنين, وحققت أرباحا تجاوزت1500 مليون جنيه في عام واحد.. ثم يضاف الي ذلك تضارب السياسات والقرارات والبيانات الحكومية, وتفشي الانحرافات في بعض الأجهزة وخاصة أجهزة الحكم المحلي.. وكثرة مخالفة القوانين, وعدم تنفيذ أحكام القضاء النهائية رغم معرفة الجميع بأسباب نجاح النموذج الصيني, التي تتلخص في الانضباط, والاحترام للنظم والالتزام الدقيق بالقوانين, وعدم التهاون في تنفيذها.. وأخيرا تعثر كثير من المشروعات الخاصة والعامة, وعلي رأسها صناعة الغزل والنسيج العريقة التي كانت مصدر الفخر والقوة فوصلت الي درجة التدهور.
هذا هو ملخص تشخيص مجلس الشوري لعوامل الأزمة في كلمات قليلة, وقد حرص المجلس علي أن يضع أمام الحكومة الحكمة التي تقول إن تجاهل المشكلات لا يعني عدم وجودها.. وبعد ذلك فإن المجلس يقدم مجموعة من النصائح للحكومة تفوق مايمكن أن يقدمه خبراء البنك الدولي.
وتتلخص هذه النصائح في: إعادة النظر في السياسات المالية والنقدية والاقتصادية, وإيجاد مناخ مشجع للاستثمار.. ومواجهة مشكلة السيولة والركود بسداد ديون الحكومة, ووقف شراء الأجهزة الحكومية للمنتجات والسلع المستوردة, وهذا لا يتعارض مع اتفاقية التجارة الحرة.. وإدارة احتياطي الحكومة بحكمة وحذر.. والتشدد في متابعة تنفيذ السياسة الجديدة لوقف التلاعب في أسعار العملات.. وتجنب الآثار السلبية لحركات رءوس الأموال الأجنبية قصيرة الأجل, التي لا يهمها الآثار الخطيرة لخروج العملات علي الاقتصاد القومي.. واتخاذ إجراءات حازمة لترشيد الواردات وحماية الانتاج الوطني.. وتطبيق النظام الذي تنفذه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بالدعم المالي للصادرات, وإعادة الحياة الي المجلس الأعلي للصادرات الذي أنشيء ثم تجمد.
أما مشكلة المشاكل في هذه المرحلة, وهي مشكلة البطالة, فإن مجلس الشوري يواجهها بصراحة, ويطالب الحكومة بأن تعلن أن الحل الكامل أو شبه الكامل لهذه المشكلة لن يتحقق في المدي القصير, لأن كثرة التصريحات الرسمية عن قرب حل مشكلة البطالة وتوفير فرص العمل بأرقام فيها مبالغة ظاهرة, يولد الشعور بترقب الحل اليوم أو غدا علي أكثر تقدير, ويعطي للجميع الاحساس بأن الحكومة لديها الحل لهذه المشكلة الصعبة, التي تعانيها كل دول العالم حتي الدول المتقدمة والغنية وعلي رأسها الولايات المتحدة وألمانيا وايطاليا وأسبانيا وفرنسا وبريطانيا..الخ, ولابد أن يدرك الجميع دون لبس أن الحل يتوقف علي حجم المدخرات التي يمكن استثمارها في مشروعات جديدة توفر فرص العمل, وأن حجم المدخرات الوطنية الحالي لايكفي لكل متطلبات التنمية الشاملة والسريعة.. والحل الوحيد الآن هو تشجيع الاستثمارات العربية والأجنبية, وهذا يتوقف علي مدي مقدرة الحكومة علي إزالة العقبات التي تجيد البيروقراطية المصرية وضعها أمام المستثمرين وتدفعهم للتردد أو الهرب..
ونجاح الحكومة يتوقف علي قدرتها علي تحريك السوق وتشجيع الاستثمارات لإيجاد فرص عمل جديدة, وقدرتها علي زيادة الصادرات التي أصبحت تمثل واحدا علي الألف في المائة من جملة الصادرات العالمية, بينما كانت منذ خمس سنوات تمثل واحدا في المائة.
ومجلس الشوري يركز في نصائحه علي إعادة الانضباط المفقود في المنافذ والجمارك, مما أدي الي زيادة تسرب السلع الأجنبية الرديئة والفاسدة وغير المطابقة للمواصفات والمجهولة المصدر, وانتشار التهريب, والتهرب الجمركي, واستغلال الموردين لنظام السماح المؤقت بدون رقابة محكمة, والتلاعب في المناطق الحرة بدون حساب علي نشاطها حتي امتلأت الأسواق بنفايات أوروبا التي انتهت صلاحيتها.
ويبقي أن يفهم المطالبون بالتماس الحل عند البنك الدولي, أن المشاكل ليست مجهولة وأسبابها ليست خفية والحلول ليست غائبة.. ولكن الأمر يحتاج الي الإرادة والجدية والانضباط والالتزام بالقوانين, والنزول علي أحكام القضاء دون تردد أو تحايل.. واذا توافرت الإرادة والجدية فكل شيء ممكن, وأمامنا تجارب الدول الآسيوية في اجتياز أزمتها بنجاح.. وأخيرا فإن اليد الواحدة لا تصفق.. والحكومة وحدها ليس بيدها الحل السحري لكل المشكلات, إلا اذا ساعدها كل مواطن بإخلاص.