سهرة الخميس الماضي في الأوبرا أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن الأزمة الأولي, بل انها أم الأزمات هي أزمة الادارة. السهرة حضرها عدد كبير من الوزراء وكان مالفت الانظار ان حال الأوبرا تغير, وبعد أن كانت قد وصلت الي درجة محزنة من التدهور وسوء الحال, أصبحت في وقت قصير تضاهي أرقي دار للأوبرا في أي دولة أوروبية.. وكان السؤال هو: ماذا حدث وتبدلت معه الأحوال هكذا.. وهل ما حدث في الأوبرا يمكن أن يحدث في مواقع أخري لا تقل عنها حساسية وأهمية واحتياجا للانضباط..
ولم نجد بعد البحث غير اجابة واحدة, هي أن الادارة تغيرت.. وجاءت ادارة جديدة لديها ارادة الاصلاح والتطوير, ولديها القدرة علي ذلك, ولا تقف مشاكل التمويل والديون وزيادة العمالة ونقص السيولة عقبات أمامها, ولكنها تمثل تحديات استطاعت بالتنظيم واستغلال الأمكانات المتاحة وتطويرها.. هذه الادارة التي اتبعت الأسلوب العلمي استطاعت ان تتغلب علي مشاكل كانت كفيلة بتدهور الأحوال أكثر وأكثر.. واستخلص المشاركون في الحوار ان تغيير القيادة كان نقطة الانطلاق والاصلاح, ولم يكن ممكنا تحقيق هذه القفزة بدون التغيير واختيار قيادة يتوافر فيها الاخلاص, والانضباط, والقدرة علي مواجهة التحديات وعدم الاستسلام للامر الواقع.
وكان الدرس الثاني من النجاح الهائل لفرقة الموسيقي العربية, حتي أن ادارة الأوبرا اضطرت الي اضافة مئات المقاعد في الطرقات, وكان السؤال: لماذا هذه الفرقة بالذات هي التي حققت كل هذا النجاح وفي البلد عشرات الفرق.. وكانت الاجابة أيضا.. هذه الفرقة وجدت في سليم سحاب قيادة لديها الاخلاص والقدرة والانضباط وعدم الاستسلام للأمر الواقع وقبول التحديات..
أما الدرس الثالث فكان في ظهور وجوه جديدة شابة اقنعت آلاف الحاضرين بقدرتها علي أن تسير علي الطريق الذي سار عليه أعلام الفن.. وبالقطع سوف يكون من بينهم أكثر من أمكلثوم وأكثر من عبدالوهاب.. ووصلنا الي حقيقة ان المواهب في مصر لم تنضب وأن القول بأن أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش وغيرهم لن يجود الزمان بمثلهم هو قول غير صحيح.. لأن الزمان يجود دائما بالمواهب والقدرات.. ولكن هناك جيلا يسمح بظهور المواهب واكتشافها, ويحافظ عليها, ويرعاها, ويساعدها علي النمو والتألق, وهناك جيل يقتل فيه الكبار الصغار, ويعوق الاقرياء تقدم الضعفاء, وتظهر فيه المقولة الفاسدة بان البلد لم يعد فيه من يصلح ليحل محل من يترك مكانه.. وهذه الفكرة الخبيثة الفاسدة ضد طبيعة الحياة, وهي المبرر لكي يبقي كل في مكانه لا يغادره.
تقود هذه الحقيقة الي ما يلاحظه الجميع من أن كل من يحتل موقعا يحرص علي ألا يظهر بعده من يصلح ليحل محله يوما ما, ولو بعد عمر طويل, حتي شاعت فكرة أن كل مكان فيه شخص واحد يصلح له هو الشخص الأخير الذي خلقه الله لهذا المكان وبعده الطوفان.
ولان هذه السهرة تحولت الي قضية أو نموذج فانها تصلح للبحث فيما يسميه العلماء دراسة حالة بمعني أن يكون ما حدث ويحدث في الأوبرا حالة يدرسها خبراء الادارة ليستخلصوا منها الدروس.. والحقيقة الأولي أن مصر مليئة بالمواهب والقدرات ولا تجد من يكتشفها ويعطيها الفرصة, وان الخلل في مواقع الانتاج والخدمات مرجعه أولا وأخيرا سوء الادارة.
ويبقي أن نبحث عن الحل.. والحلول التي طرحت في هذه الليلة- بعيدا عن موائد الاجتماعات والجلسات الرسمية- ان نعترف باننا تقدمنا في مجالات كثيرة ولكن الادارة عندنا متخلفة, ولذلك نحتاج الي الاستفادة من الدول التي ارست قواعد الادارة الحديثة منذ سنوات طويلة.. في أمريكا, واليابان, وأوروبا, فلماذا لا نرسل المديرين ومساعديهم في بعثات الي هذه الدول للتعرف علي نظم وأساليب الادارة العصرية.. ولماذا لا نستعين بخبراء في الادارة من الدول لاعادة تنظيم الجمارك والضرائب والبريد والسككك الحديدية والتأمينات وإدارات المحاكم وكل للمرافق ذات الصلة المباشرة بالمواطنين والتي يؤدي سوء ادارتها الي تعطيل مصالح الناس واهدار وقتهم, كما يؤدي الي ضياع الكثير علي الدولة والمجتمع.
أما مسألة خلق أجيال جديدة من القيادات أو اعطاء الفرصة للشباب ليحتلوا مواقع في الصف الثاني أو الثالث, فيبدو أن تحقيقها شديد الصعوبة.. واذا تم تنفيذها بالقانون أو بالاوامر فسوف يتولي الوزراء الحاليون ورؤساء الهيئات والشركات اجهاضها لتبقي مقولتهم الدائمة بأنه ليس في مصر من يصلح ليحل محل أي شخص في أي موقع قيادة.. ويبدو أن ما فعله سمير فرج وسليم سحاب في الأوبرا غير قابل للتكرار.. علي الأقل في المدي المنظور.. وان كنا سوف نستمر في الكلام عن أهمية تطوير الادارة, وضرورة خلق أجيال جديدة من القادة, وحتمية التيسير علي المواطنين في قضاء مصالحهم, سوف نظل نتحدث عن مصر2010 كما كنا نتحدث منذ عشر سنوات عن مصر2000 والكلام ليس عليه جمرك, كما يقول المثل الشعبي.