طه حسين فى أيامه الأخيرة
كان طه حسين فى أيامه الأخيرة رهين المحبسين.. العمى والبيت، مثل أبى العلاء المعرى الشاعر الضرير الذى أحبه وألف عنه كتابا من أجمل كتبه، وكان يعانى من عدة أمراض.. الشيخوخة.. والقلب.. والمعدة.. وعجز الساقين عن السير إلا بصعوبة بالغة، ومع ذلك لم يتوقف عن القراءة والكتابة!
كان سكرتيره يأتى إليه فى موعد لا يخلفه فيجده مرتديا البدلة والكرافتة والحذاء جالسا فى غرفة المكتب فيقضى معه ساعات طويلة يقرأ له الصحف، ثم ينتقل إلى كتاب باللغة العربية أو الفرنسية، ثم يجلس ليكتب ما يمليه عليه من مقالات وفصول من الكتب التى وصلت إلى أكثر من خمسين كتابا.. ولم يكن طه حسين يستجيب لإغراء زوجته له بالخروج للسير ولو قليلا فى الهواء الطلق ويفضل أن يقضى وقته فى العمل، ثم بعد ذلك يجلسان معا لسماع الموسيقى الكلاسيكية.. كان يحب موزار وبيتهوفن وغيرهما وكان يفضل الاستماع إلى سيمفونية فاوست وسيمفونية براج وألحان فرانز ليست كما تقول زوجته.
كان سكرتيره يقرأ له القرآن الكريم كل يوم على الرغم من أنه يحفظ القرآن كاملا وتفسيره بحكم دراسته الأزهرية وكان قد بدأ فى كتابة رواية بعنوان «وراء النهر» ولم يسعفه القدر لإتمامها، وبعد رحيله وجد أوراقها زوج ابنته محمد حسن الزيات وزير الخارجية الأسبق، فكتب خاتمتها ونشرها بعد رحيل طه حسين فى كتاب صدر فى مناسبة عيد ميلاده الخامس والثمانين.
***
هذه الأيام لم تعد داره تستقبل الكثير من أصدقائه المقربين بعد أن غيبهم الموت من أمثال لطفى السيد والشيخ مصطفى عبد الرازق والدكتور محمد حسين هيكل والشيخ على عبد الرازق وأمير الشعراء أحمد شوقى.. إلخ، ولكن جماعات من شباب الأزهر كانت تتوافد إلى البيت لزيارته ويرحب بها ويتجاوب مع تساؤلاتها، كما كان يتوافد على البيت أصدقاؤه من المستشرقين فيستقبلهم وتدور بينه وبينهم حوارات طويلة، لكنه لم يكن يرحب بالأحاديث الصحفية والتليفزيونية ووافق على مضض على تسجيل حلقتين للتليفزيون، ومن المؤسف أن أحاديثه فى الإذاعة ومحاضراته التى كان يلقيها فى مصر والخارج لم يتبق منها إلا القليل جدًا، ولا يزال الجيل الذى عاش فى زمن طه حسين واستمع إليه يشتاق إلى صوته الجليل والعميق والواضح وإلى أسلوبه السهل العميق والبليغ، وقد كان الناس يستمعون إليه كما يصغون للموسيقى، ويستمتعون بأسلوبه الذى لا مثيل له.. وقد وصفه صحفى إيطالى بقوله: يبتسم طه حسين حين يتحدث، وينطلق صوته انطلاق الموسيقى، وعيناه المقفلتان لا تفصلانه عن العالم، فهو يتلقى النور واللون والجمال بتحسس خفيف للأشياء من يده.. ويقال عنه إنه مخيف وهذه حقيقة.. فقد كانت له كلمات صريحة قاسية لأنها عادلة لكنه لم يكن أبدًا يتصرف مع أحد بقسوة.. وقالت عنه زوجته - سوزان - إنها كانت تلازمه وكانت تتابع حرصه على البحث النزيه عن الحقيقة والوطنية الصادقة والشخصية الساحرة النبيلة حتى لحظاته الأخيرة. وكان يقول لها: لو قارنت نفسى بشىء ما لقارنتها بالأرض الرطبة على شاطئ النيل التى ما إن يلمسها المرء ولو مجرد لمسة خفيفة حتى يتفجر الماء منها.. أما زوجته فتقول عنه إنه فى أيامه الأخيرة وعلى مدى عمره كله كانت شخصيته دوما تتصف يالشجاعة والإيمان والأمل، كما كان يمتاز بالزهد الذى يميز الشخصيات العظيمة.
***
تقول زوجته إنه كان - حتى أيامه الأخيرة - يحب صوت الكروان، وكان تغريد الكروان يؤثر فيه كثيرا، فكان يجلس فى الشرفة ليستمع إلى هذا الصديق، وقد كتب رواية مشهورة بعنوان «دعاء الكروان» تحولت إلى فيلم واستجاب لإلحاح المخرج فسجل بصوته كلمات عن الكروان لمقدمة الفيلم.
وكانت د. سهير القلماوى حريصة على زيارته باستمرار مع زوجها، وهى تلميذته وابنته الروحية التى كانت تدين له بالوفاء لأنه كافح حتى قابلته وهى طالبة فى كلية الآداب وكانت أول فتاة تلتحق بالجامعة، وظل يشجعها حتى حصلت على الليسانس بتفوق وأشرف على رسالتها للماجستير، ثم الدكتوراه وساعدها فى التعيين كأول أستاذة فى الجامعة، وكان يسعد بالحوار معها، وكانت هى تتعجب وهى تراه دائمًا مرتديا ملابسه كاملة، حليقا، عاقدا ربطة عنقه، منتعلا حذاءه، فتقول له: أنت فى بيتك فلماذا لا تلبس ملابس البيت فلا يستجيب لها.. وكانت زوجته تساعده على أن يبدو فى البيت بكامل أناقته وتقول: لم أرد أن يقال إن زوجها أعمى فما أهمية أن يكون بلا هندام مادام لا يرى شيئا؟ وتقول: لم يكن يبدو سعيدا جدا إلا عندما يمارس نشاطه الغالى عليه، فقد كان يعزى نفسه بالكتابة وبالحديث من حين لآخر فى الإذاعة المصرية والإذاعة البريطانية (BBC).
***
وفى أيامه الأخيرة كانت زوجته - كما كانت طوال حياتهما - تشاركه فى إعداد الكتب التى يملى فصولها على سكرتيره، وتتابع نشر الكتب، وتراجع بنفسها الطبعات الفرنسية.
وقبل أن يقعده المرض زاره صديقه الفيلسوف الفرنسى «ماسينيون» وفى حوارهما عن دور الكاتب فى المجتمع قال طه حسين:«إن كل كاتب، وكل فنان لا يمكن أن يتقدم إلا بالإخلاص شأنه فى ذلك شأن بطل «دانتى» يحمل المصباح معلقا على ظهره ليضيئ طريق الذين يتبعونه»، وفى هذه الفترة كان يتحامل على نفسه ويشارك فى مناسبات يرى أن واجبه أن يمثل مصر فيها، ففى فلورنسا شارك فى ندوة عن سوء التفاهم بين الشرق والغرب دافع فيها عن الشرق أمام الذين تحدثوا عن تفوق الغرب كما عارض الذين أظهروا العداء للغرب على الإطلاق، وتحدث عن إسهامات العرب بعلومهم وآدابهم وحضاراتهم فى حضارة الغرب، وحدث فى يوم أن التقى بسفير بريطانيا فقال له: أود لو أعرف فى أية لحظة من الزمن عهدت العناية الإلهية لبريطانيا بالقيام بمهمة البوليس فى العالم؟ وأظنه لو كان بيننا اليوم لقال هذه الكلمات لسفير الولايات المتحدة!
وفى مؤتمر آخر فى فلورنسا أيضًا ألقى محاضرة قال فيها: إن واجبنا يتجلى فى عقد روابط الأخوة بين العالم الإسلامى الذى أمثله وبين العالم المسيحى فى الغرب، ومد هذه الروابط إلى كل الناس، لأنه لا وجود فى نظر الله لشرق أو لغرب، ولا لجنوب أو شمال، وإنما العالم والناس عند الله كلهم من خلقه، وعندما يمنح الله العدالة للناس فإنه لا يمنحها للمسيحيين وحدهم أو للمسلمين وحدهم، وإنما يمنحها لجميع الناس، إننى أطالبكم بمحاسبة أنفسكم (وكان يقصد بذلك أن يحاسبوا أنفسهم عن خطيئة التمييز بين الناس وهم جميعا من خلق الله) وختم حديثه بقوله: حقا إن الإسلام دين التسامح وأفاض فى تقديم الشواهد التاريخية والنصوص القرآنية على ذلك.
ويذكر لطه حسين أنه هاجم فرنسا عندما اشتركت مع إسرائيل وبريطانيا فى العدوان على مصر عام 1956 وأعاد الوسام الذى منحته له فرنسا تعبيرا عن غضبه وشاركته فى الغضب زوجته الفرنسية التى كانت تعلن أن مصر هى وطنها كما هى وطن زوجها وابنها وابنتها.
كانت أيامه الأخيرة طويلة، وكانت فى الحقيقة سنوات عانى فيها الكثير من الآلام الجسيمة بسبب الشيخوخة والمرض والآلام النفسية بسبب تطاول بعض الصغار والجهلاء عليه وأيضًا بسبب أحداث ومواقف سياسية يرفضها، وفى يوم تحدث مع جمال عبد الناصر عن المعتقلات فقال له عبد الناصر إنه ليس راضيا هو الآخر وأنه فى بعض الليالى لا يستطيع أن ينام بسببها، ولكنه مضطر لذلك لحماية البلد.
***
كان طه حسين فى كل مراحل حياته يقاوم الانهزام أمام خصومه أو أمام المرض والشيخوخة ولم يستسلم إلا للموت.