المسئولية الاجتماعية للصحافة

في الاجتماع الأخير للمجلس الأعلي للصحافة أصدر المجلس تقريرا جاء في الوقت المناسب تماما لينبه إلي خطورة الصحافة الصفراء في مصر ويتناول بالتحليل نشأتها وتطورها وعوامل انتشارها‏,‏ وطلب المجلس من الصحف نشر هذا التقرير تنفيذا لمادة في قانون سلطة الصحافة تلزم الصحف بنشر تقارير المجلس‏.‏

يشير التقرير الي ما سببته الصحافة من اضطرابات في المجتمع الأمريكي مما أدي إلي تشكيل لجنة أعدت تقريرا بعنوان صحافة حرة مستقلة‏,‏ وحدث في بريطانيا الشيء نفسه حيث شكلت اللجنة الملكية للصحافة التي طالبت بإنشاء مجلس أعلي للصحافة لاعادة الانضباط والمسئولية في ممارسات الصحافة لحريتها‏,‏ وفي الفترة الاخيرة تم تعديل ميثاق الشرف الصحفي البريطاني لإلزام الصحفيين بعدم ممارسة الابتزاز في عملهم‏,‏ وحظر تصوير أحد في مكان خاص دون موافقته احتراما للحياة الخاصة‏,‏ وكذلك حظر الملاحقات والمطاردات من الصحفيين لضحاياهم‏,‏ والالتزام بعدم الافصاح عن هوية ضحايا الاعتداءات الجنسية‏.‏


ويشير التقرير أيضا إلي أن هناك ثوابت أخلاقية ومهنية يجب أن تحكم الممارسات الصحفية‏,‏ وأن حرية التعبير لها هدف هو النهوض بالمجتمع بطرح الآراء المختلفة في القضايا الحيوية‏,‏ ومراقبة ونقد الاداء الحكومي‏,‏ والاسهام في ترسيخ قيم الديمقراطية‏,‏ والعدالة‏,‏ والمساواة‏,‏ ويجب ألا تكون حرية الصحافة وسيلة لاثارة الغرائز الجنسية‏,‏ وتلطيخ الأبرياء بشبهات وشائعات بغير سند أو دليل‏,‏ وانتهاك القيم الأخلاقية للمجتمع وهي بالطبع قد تختلف مع القيم السائدة في مجتمعات أخري‏..‏ ويصل التقرير في تحليل ظاهرة الصحافة الصفراء في مصر إلي مناخ الحرية الذي كانت له نتائج ايجابية وبناءة‏,‏ كما كانت له نتائج سلبية وآثار جانبية تمثلت في صحافة تحاول جذب القراء بالتوسع في نشر الفضائح والجرائم الجنسية وأخبار عن حالات الشذوذ‏,‏ وتحرص علي الاستعانة بالعناوين المضللة والشائعات‏.‏

أما أسباب انتشار الصحافة الصفراء في مصر‏,‏ فإن تقرير المجلس الاعلي للصحافة يحددها في أن دخول رجال الأعمال في ساحة السياسة والصحافة من ناحية‏,‏ وتآكل الطبقة المتوسطة الحريصة علي القيم من ناحية ثانية‏,‏ وشيوع ظاهرة البحث عن الربح السريع من ناحية ثالثة‏,‏ كل ذلك أسهم في زيادة حجم صحافة الفضائح والابتزاز‏,‏ وتحولت الاعلانات الي رشوة مقنعة تحصل عليها بعض الصحف مقابل تخليها عن دورها الاجتماعي في رفع مستوي الوعي السياسي‏,‏ والإسهام في توسيع رقعة المشاركة الشعبية في القرار‏,‏ وكشف الفساد بوقائع وأدلة صحيحة ومحددة‏,‏ وارتبط ذلك بقيام بعض الاحزاب بتأجير تراخيص بعض الصحف الحزبية للباحثين عن الربح‏,‏ فخرجت هذه الصحف عن مفهوم ودور الصحافة الحزبية كوسيلة للتعبير عن فكر الحزب وتوجهاته وتعبئة الجماهير وراء مواقفه السياسية‏,‏ واعتمدت هذه الصحف الصفراء علي شباب غير مؤهل وغير متخصص دخل سوق العمل الصحفي من أبواب خلفية دون تدريب علي قواعد وتقاليد المهنة‏,‏ وظهرت مشكلة أخري تناولها تقرير المجلس وهي أن النجاح الطارئ لبعض الصحف الصفراء أغري بعض الصحف والمجلات القومية والحزبية التي كانت رصينة وجادة لاستعارة ممارسات هذه الصحف الصفراء‏

,‏ فيما يتعلق بنشر صور منافية للأخلاق‏,‏ وتفاصيل الجرائم والفضائح الجنسية‏,‏ وانتهي التقرير إلي أن استمرار هذه الظاهرة في تلك الصحف والمجلات القومية والحزبية سوف يؤدي إلي تقويض الدور الاجتماعي للصحافة‏.‏

ويرصد تقرير المجلس الأعلي للصحافة الموضوعات المخالفة للشرف الصحفي ويسجل أسماء الصحف الصفراء التي نشرتها‏,‏ ويطلب محاسبتها‏,‏ ووضع قواعد لمنع انتشارها‏,‏ وتتصل هذه الموضوعات بالتشهير بالشخصيات السياسية‏,‏ والفنية‏,‏ والرياضية‏,‏ بأخبار ذات طابع جنسي‏,‏ وتتعمد أن تنطبق أوصاف هذه الشخصيات علي عدد كبير من الشخصيات العامة مما يؤدي قطعا إلي اثارة البلبلة‏,‏ وتوسيع دائرة الشبهات وغرس الشكوك في نفوس الناس بغير أساس‏,‏ وتفلت هذه الصحف من المحاكمة الجنائية بهذه الطريقة‏,‏ وليس هناك جهة تحاسبها علي هذا الانحراف عن مباديء الشرف الصحفي أو عن الفبركة الصحفية‏.‏


وكما يطالب المجلس الأعلي للصحافة الصحف بنشر هذا التقرير التزاما بنص قانون الصحافة كنوع من النقد الذاتي والسعي الي التصحيح الذاتي فإنه في هذا التقرير يمارس النقد الذاتي علي نفسه أيضا فيسجل أنه لم يقم بدوره كما ينبغي للتصدي لهذا التيار الخطير‏,‏ ويطالب نفسه بممارسة مسئولياته التي أعطاها له القانون وجعله ضمير المجتمع في محاسبة الخارجين علي الشرعية والقيم والأخلاق وحماية المجتمع‏,‏ وضمان التزام الصحافة بمسئوليتها الاجتماعية وهي تمارس الحرية المكفولة لها‏,‏ فكل حرية لابد أن تقابلها مسئولية‏,‏ وإلا تحولت إلي فوضي‏,‏ ولعل هذا التقرير بداية لعودة الانضباط والضمير وإعمال آليات المحاسبة في الوقت نفسه‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف