حوار الثقافات
طرح الرئيس الفرنسي جاك شيراك في ضوء رؤيته لاحداث11 سبتمبر الماضي أسئلة بالغة العمق والأهمية حول قضايا صراع الحضارات التي أصبحت مطروحة علي نطاق واسع في الغرب الآن, علي أنها صراع بين دين ودين, أو صراع بين قيم اجتماعية واخلاقية وقيم أخري, أو صراع بين محاولات تغيب هوية أصحاب الثقافات المختلفة قسرا باسم العولمة.
وطرح الرئيس الفرنسي أمام المؤتمر الأخير لليونسكو في نيجيريا في منتصف أكتوبر الحالي تصورا متكاملا وراقيا للاطار والمباديء التي يجب ان يدور علي أساسها الحوار بين الحضارات والثقافات.
وكانت اسئلة شيراك في الصميم.. وكأنه يقرأ ضمائر الشعوب في دول الجنوب جميعا.. هل أعطي الغرب الانطباع بانه يفرض ثقافة مادية يشعر الآخرون بأنها ثقافة عدوانية؟ ألم تظهر في بعض حوارات الغرب روح استعلاء الأغنياء المفرطة في التركيز علي النفس؟ ألم يظهر الغرب عدم اكتراثه بالواقع الاجتماعي والروحي لكل ماهو خارجه؟
ومن هذه الاسئلة حدد شيراك المباديء التي يجب علي الغرب ان يلتزم بها في هذا الحوار وأول هذه المباديء أن جميع الثقافات متساوية في الكرامة, وأن العلاقة بين الثقافات يجب ان تقوم علي التبادل والأخذ والعطاء, والتأثير والتأثر, ولاتقوم علي فرض ثقافة واحدة وتصور أنها الوحيدة التي يجب أن تسود العالم.
ولابد ان تؤمن الدول الكبري بضرورة التعددية في الثقافات والديانات والقيم.. ففي العالم اليوم خمسة آلاف لغة نصفها سوف يندثر خلال هذا القرن.. وفي العالم أقليات معزولة معرضة للخطر.. وفي العالم انماط من الحياة والعادات والسلوك مختلفة ومتعددة ولكنها ــ بفعل ضغوط العولمة ــ معرضة كلها للتوحيد القسري, وهذا هو الوجه الممسوخ للعولمة.. فالعولمة كما هي الآن ليست إلا مجموعة من الشروط والقيم المادية, ومن الممكن أن تكون لصالح البشرية إذا قامت علي المشاركة في المعرفة والثروات, كما يمكن ان تكون معادية لشعوب كثيرة اذا قامت علي قولبة كل شيء في نمط واحد وعلي سيادة قانون السوق وحده الذي يتغاضي عن المباديء الاخلاقية, فالعولمة بمفاهيمها وتطبيقاتها الحالية ساحقة للثقافات, والرد عليها يجب أن يكون بالتمسك بالتعددية الثقافية, وتأكيد علي أن كل شعب, وكل ثقافة, وكل دين, فيه رسالة فريدة يعطيها للعالم, وكل منها يستطيع أن يسهم في إثراء البشرية.
ما العمل أمام طغيان العولمة بصورتها المادية والعدوانية؟
الاجابة هي ان تتحرك المنظمات الدولية, والقيادات الحريصة علي مستقبل البشرية, لمساعدة كل من يريد الدفاع عن هويته, والدفاع عن التعددية, وألا تكون المعرفة ومصادر المعلومات وشبكات الاتصال المتقدمة والاقمار الصناعية حكرا علي العالم الغربي.. ويجب التنبيه إلي خطورة استمرار الفجوة القائمة في مجال العلوم والمعلومات.
ولكي يكون الحوار بين الثقافات مجديا يجب أن يتوافر في العلاقات الدولية العدالة, والاهتمام بالناس وقضاياهم وازالة الشعور بالظلم, وايجاد حلول حقيقية لمخاوف الشعوب المستضعفة من أنانية الدول الكبري وسعيها إلي السيطرة علي الاقتصاد والاستئثار بالثروات.. وشعورها بانعدام المساواة في النظام العالمي الجديد.. وفي النهاية لايمكن تسليم مقادير العالم لقوي السوق وحدها, بدلا من جعل العولمة حضارية تضع مصالح الناس فوق السوق, وتمنع استمرار حالة انعدام القانون ومايترتب علي ذلك من انحرافات.
ينبه شراك الي ضرورة معالجة الفجوة بين دول الشمال ودول الجنوب حيث يعيش ثلثا البشرية في فقر, وسيزداد هذا الفقر اذا تمادت الدول الغنية في موقفها الحالي من عدم تحملها لمسئولياتها في مساعدة الفقراء علي التنمية.. كما ينبه إلي أن الارهاب يظهر بعد التعصب والتعصب ينمو في الجهل والاحباط.
وحوار الثقافات لاجدوي منه اذا لم يقم علي احترام الآخر, واحترام النفس, واحترام الآخر يعني معرفته, والتسليم بأن هناك أوجه اتفاق وأوجه اختلاف, ولايمكن ان يكون الناس والمجتمعات صورة طبق الاصل.. احترام الآخر يعني حسن الاستماع إليه, والعمل معه وليس العمل بالنيابة عنه, واعطاءه حرية القرار وعدم فرض القرارات عليه.
وأخيرا فإن حوار الثقافات يجب ان يتم بتواضع وليس بالغطرسة ومن وحق كل شعب ان يفتخر بما اعطاه للعالم ومن واجبه ان يعترف بالجرائم والمظالم التي ارتكبها خلال تاريخه لتطهير النفس وممارسة النقد الذاتي بشجاعة.
هكذا طرح الرئيس الفرنسي شيراك تصوره لحوار الثقافات ولتصحيح مسار العولمة.. وليت هذه الافكار تصل إلي الدول التي لاتتعامل إلا بالقوة, وفرض الأمرالواقع, وبالغطرسة.!