تحذير مبكر

بادر مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام ـ كعادته ـ بالقيام بدور جهاز الإنذار المبكر‏,‏ فعقد ندوة علي مستوي عال لبحث الانعكاسات المحتملة للتطورات العالمية الملتهبة علي الوحدة الوطنية في مصر‏.‏ ومن الواضح أن زيادة الجرعة الإعلامية عن صراع الحضارات والتوسع في الحديث عن الآثار المحتملة للتصريحات الصادرة من مسئولين في الغرب مست مشاعر المسلمين‏,‏ قد يستغلها ذوو النيات الخبيثة لنقل المعركة إلي الداخل‏.‏
وعلي الرغم من حساسية الموضوع إلا أن الحوار كان غاية في الصراحة والانفتاح‏,‏ لأن ما يتردد في الغرب عن صراع الحضارات وعن الكراهية للإسلام والمسلمين‏,‏ والمبالغات الإعلامية في تناول أحداث محدودة‏,‏ أو تصريحات حمقاء‏,‏ قد تكون ذريعة لمروجي الفتن في الداخل‏,‏ أو فرصة لسماسرة الإرهاب‏,‏ أو ثغرة جديدة ينفذ منها أصحاب الأقلام المسمومة الذين يسعون إلي إشعال النفوس تحت ستار الغيرة علي الدين والدفاع عن العقيدة‏.‏

وإذا كانت المعركة القائمة الآن مع الإرهاب فيجب أن تظل في هذا الإطار‏,‏ ولا تتعداه‏,‏ ومادام الرئيس الأمريكي يعلن كل يوم أن الإسلام والمسلمين لا شأن لهما بما حدث في‏11‏ سبتمبر‏,‏ وكذلك فإن القتال في أفغانستان ليس موجها إلا إلي جماعة معينة دون سواها‏,‏ ليس بسبب عقيدتهم‏,‏ ولكن بسبب أفعالهم‏,‏ فإن علينا أن نضع المسألة في إطارها الصحيح وفي حجمها الحقيقي‏.‏ ولذلك جاءت نذوة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في وقتها‏,‏ لكي يسمع العالم كلمة الأزهر والكنيسة معا برفض الإرهاب‏,‏ وتأكيد المؤسستين أن الإرهاب لايمكن أن يكون تعبيرا عن دين من الأديان السماوية‏,‏ لأن الأديان جاءت دعوات للسماحة والإخاء‏,‏ ولم ينزل الله أنبياءه وكتبه بدعوة أن يقتل الناس بعضهم بعضا أو ليدمروا ويخربوا ويفسدوا في الأرض‏.‏
وكما قال الأستاذ إبراهيم نافع فإن صورة الإسلام ملتبسة في المجتمعات الغربية إلي الحد الذي أوقع عددا من المسئولين هناك إلي الحديث عن الأبعاد الدينية للحملة ضد الإرهاب‏,‏ واستغل البعض هناك ذلك للحديث عن حرب دينية‏.‏ في الوقت الذي أعلن فيه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر موقف الإسلام الرافض للإرهاب والقتل غدرا‏,‏ وترويع الآمنين‏,‏ وذكرنا بالقاعدة الشرعية أن من قتل نفسا ظلما فكأنما قتل الناس جميعا‏,‏ وقال إن موقف الأزهر رافض لطرح العلاقة بين الحضارات علي أنها علاقة صراع‏,‏ ولكن التاريخ والواقع يؤكدان أن الحضارات تتعايش وتتفاعل وتتعاون ويأخذ بعضها من بعض‏..‏ وشاركه في هذا الموقف قداسة البابا شنودة‏,‏ وأكد وحدة الفكر والمصير للأقباط والمسلمين في مصر‏..‏ فقد سالت دماء الأقباط والمسلمين معا في كل الحروب‏,‏ وارتوت الأرض بدماء الشهداء دون تفرقة منذ وقوف الأقباط مع المسلمين صفا واحدا خلف قيادة صلاح الدين ضد غزو الفرنجة حتي تحررت القدس‏,‏ حتي حرب أكتوبر‏1973.‏

ومن خلال هذه الندوة ظهرت الحاجة إلي عمل مشترك لرجال الدين المسلمين والأقباط‏,‏ في المساجد والكنائس‏,‏ وللمعلمين في المدارس‏,‏ وللعاملين في كل وسائل الإعلام والدعوة‏,‏ لقطع الطريق علي أي محاولة لتحريك الفتنة أو إثارة القلاقل‏,‏ وقد وضع الأستاذ نبيل عبدالفتاح أمام قيادات المؤسسات الإعلامية والدينية والثقافية عدة سيناريوهات بقصد الإعداد مبكرا لمنع وقوعها‏,‏ مثل حدوث عمليات إرهابية مخططة وممولة من جهات خارجية أو من جماعات تمارس الإرهاب علي أساس ديني‏,‏ أو نشر شائعات لإثارة نزاعات طائفية‏,‏ أو تضخيم أحداث صغيرة عابرة لتكون مدخلا لتعبئة المشاعر‏,‏ كما حذر من استغلال البعض لأخطاء في الخطاب الغربي لشحن النفوس وتبرير القيام بأعمال تخريبية‏.‏
وكان مشروع الأستاذ نبيل عبدالفتاح باقتراحاته للعمل الوقائي موضع اتفاق كل من الإمام الأكبر‏,‏ وقداسة البابا والمشاركين في الندوة‏,‏ مثل تكوين لجنة لمتابعة محاولات الدس والإثارة الطائفية ومواجهتها‏,‏ والحرص علي ما يقال في دور العبادة والحذر ممن يستغلون الفرص للتحريض علي الأديان أو ازدرائها‏,‏ وتخصيص حصص في المدارس عن الوحدة الوطنية والمخاطر الي تتهددها في إطار النزاعات الدولية‏,‏ ويضاف إلي هذه المقترحات البناءة ما طالب به الأستاذ رفعت السعيد من ضرورة ضبط الأداء الإعلامي والديني وهذه قضية في غاية الخطورة ولا تقبل التأجيل كما لا يجوز التهوين من شأنها‏,‏ أو تصور أن الأيام كفيلة بالقضاء علي السلبيات والانحرافات التي تنخر كالسوس في عقول القراء والسامعين باسم الدين وما أكثر الجرائم التي ترتكب باسم الأديان‏.‏

هذه الندوة لم تكن مجرد حلقة من نشاط ثقافي وإعلامي‏,‏ ولكنها كانت عملا وطنيا صادرا عن إحساس بالمسئولية عن الوطن وأبنائه ومستقبله‏,‏ وما قيل فيها لم يكن مجرد خطب مناسبات وكلمات بليغة‏,‏ ولكن كان أمام الجميع سؤال واحد‏:‏ ما العمل لحماية الوطن من الشرور والفتن ومن مؤامرات الداخل والخارج‏,‏ وممن يتربصون وينتظرون أي فرصة للانقضاض‏..‏ والإجابات التي قدمتها الندوة يمكن أن تكون برنامج عمل وطني للمؤسسات الدينية‏,‏ والإعلامية‏,‏ والتعليمية‏,‏ والثقافية‏,‏ إذا تنبهت لمسئوليتها وتحركت بالعمل وليس بالكلام‏..
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف