فكر جديد للتنمية
الفكرة السائدة أن التنمية لاتتم إلا باموال الاغنياء, والشركات الكبري والمؤسسات الدولية تحتاج إلي مراجعة.. لأن التنمية عن هذا الطريق لابد أن تكون بشروط أصحاب الأموال ولتحقيق مصالحهم أولا, أما الفكرة التي أطرحها هنا فهي امكان شق طريق آخر مواز هو التنمية بأموال الفقراء ومحدودي الدخل وهم قطاع عريض يمكن أن يسهم بمئات الملايين بالتراكم.
وأهم مافي هذه الفكرة هو ان يشعر جميع المواطنين أنهم مشاركون في التنمية وان التنمية معركة مصر كبري ولكل مواطن فيها دور وعليه مسئولية.. واذا لم يقم الجميع بالواجب عليه فان عليه ان يتحمل النتائج هو وأولاده.. الفكرة هي اثارة روح جماعية لتعبئة المدخرات الصغيرة بصور متعددة تحت شعار ساعد نفسك تصاحبها حملة تعبئة اعلامية وسياسية لاقناع الصغار والكبار بان بناء المصانع وتجديدها يحتاج إلي أموال كثيرة, وان الجنيهات القليلة يمكن ان تصبح مئات الملايين وتغني عن الاعتماد علي القروض واللجوء إلي المؤسسات الدولية, أو يقلل من الاعتماد عليها.
وعملية التعبئة التي اقصدها لاتكتفي بتصريحات الوزراء والمسئولين الحكوميين, لأن هذه التصريحات تبقي عادة علي السطح ولاتتغلغل في نفوس الناس, ولكن اذا جاءت من المثقفين, والقادة الاجتماعيين, والتليفزيون, والدعاة في المساجد والكنائس, والمدرسين في المدارس, وكبار القرية وشيوخها فسوف تكون أكثر جدوي, ولذلك فان البداية يجب ان تكون باقناع وتعبئة هؤلاء القادة بحيث تسري في المجتمع روح المعركة.. وارادة الانتصار علي التخلف والبطالة بايدينا ومجهودنا دون انتظار أن يأتي الحل علي أيدي غيرنا.
والهدف من تكوين رأس المال عن طريق المدخرات الشعبية ليس فقط توفير الأموال للتنمية إلي جانب التمويل القائم الآن طبعا ــ ولكن هناك هدف آخر لايقل أهمية هو تغيير سلوك الافراد, وتغيير الفلسفة الاتكالية السائدة التي تلقي بالمسئولية علي الحكومة وحدها في كل شئون الحياة, ويجب الا نغفل عن مشكلة ستواجه هذه الحملة, وهي ان هناك قطاعا كبيرا من الناس سوف يسيء الظن بها, ولن يتجاوب معها بسهولة, نتيجة تراكم سابقة استغلت لها مثل هذه الدعوات النبيلة للنصب والاحتيال, وتجارب اخري لحملات نبيلة تم اجهاضها وأفراغها من مضمونها وتحويلها إلي مجرد شعارات استفاد بها الانتهازيون مثل هذه المحاذير يجب ان تكون في حسابنا.. ولكن الهدف يستحق الجهد, ومع ظهور نماذج مخلصة ونظيفة يمكن ان يستقر مبدأ ان التنمية يجب أن تأتي من أسفل, من القاعدة الشعبية, لكي تكون لصالح محدودي الدخل والفقراء, إلي جانب دور الحكومة وأصحاب الأموال والاعمال بذلك يمكن أن تسري روح المسئولية والعمل والانتاج في المجتمع كله ولاتقتصر علي فئة تعمل وفئة تنتظر.
وقد يفيدنا ان نتذكر تجربة البنوك التعاونية التي انشئت في دول أوروبا في القرن التاسع عشر وانتشرت في كل قرية وكل مدينة ونجحت في تجميع المدخرات الصغيرة وأصبحت لديها رؤوس أموال كبيرة أصحابها غير مصابين بأمراض الجشع والرغبة في الارتفاع علي جثث الآخرين, بل بالعكس لديهم الرغبة في ان يحققوا الخير لأنفسهم وللآخرين ولبلدهم.. وباموال هذه البنوك انشئت مشروعات انتاجية وصناعات وفتحت أسواق وخلقت فرص العمل.
وفي فكر التنمية الحديث هناك نظرية تقول ان التنمية هي في الأساس موضوع تربوي, وليست فقط قضية اقتصادية الحل الوحيد لها هو المال, وهذه النظرية تؤكد ان التنمية لايمكن تحقيقها الا اذا حدث تغيير في المعايير الاجتماعية السائدة في المجتمع والحاكمة لسلوك الافراد.. لابد من تغيير الفكر السائد.. والقيم السائدة.. والمعتقدات الشعبية السلبية التي تعوق التنمية.. كل ذلك يحتاج إلي عملية تربوية كبري لابد ان تسير جنيا إلي جنب مع التنمية الاقتصادية, ومع الاحتفاظ ــ طبعا ــ بالسمات الحضارية والثقافية للمجتمع.
ومشكلتنا ان لدينا ميراثا مستقرا من الفكر القائم علي الاعتماد علي الحكومة وتحميلها المسئولية عن كل أمور الفرد, وحتي الآن لم تبذل الجهد الحقيقي لتقوية المؤسسات غير الحكومية, كما لم نحقق التغيير في الثقافة السائدة في المجتمع, بل ان مايبذل من مؤسسات الثقافة الحكومية هو تكريس وتعميق الثقافة التقليدية السائدة دون محاولة لغرس فكر جديد أو ايجاد روح التغيير في نفوس الناس.. واذكر أني استمعت منذ سنوات إلي الدكتور صلاح الدين زعيم وكان وقتها مديرا للابحاث الاقتصادية في دكا عاصمة بنجلاديش وقال ان التنمية فشلت في بلاده لأنها لم تنجح في جذب الجماهير واثارة حماسها للمشاركة في المشروعات, وان ذلك البروفيسور خوسي من جامعة بندرميز في هامبورج بالمانيا الذي قال يومها أن الفشل تحقق عالميا لاستراتيجية الدفعة الكبري واستراتيجية التنمية من أعلي.. والاستثمارات الكبيرة والتدفقات الضخمة لرؤوس الأموال الأجنبية لم تحقق تنمية حقيقية ولابد ان تبدأ التنمية من الجماهير لتسهم في مشروعات حقيقية تعطي انتاجا وتضيف إلي الدخل القومي وليست مشروعات تجارية تعطي ارباحا دون تنمية.
الدول الغنية هدفها ان تزداد غني علي حساب الدول النامية والاغنياء يريدون ان يزدادوا غني علي حساب الفقراء ومحدودي الدخل ولابد أن يدخل الفقراء ميدان التنمية بالقليل من أموالهم ومساهمة الملايين من محدودي الدخل سوف توفر مئات الملايين من الجنيهات لاقامة مشروعات انتاجية بدون تكنولوجيا معقدة ودون ان نستعجل الربح وفي النهاية سيعود عليها ناتج التنمية كما سيعود علي البلد ككل.