رؤية للمستقبل

رؤية للمستقبل


قضايا ومشكلات الحاضر كثيرة‏,‏ وملحة‏,‏ وضاغطة‏,‏ ومع ذلك يجب ألا تجعلنا نفكر ونعمل للمستقبل‏,‏ بل إن مشكلات الحاضر ليست إلا تراكمات الماضي‏,‏ ووضعها في سياق التفكير والعمل للمستقبل هو الطريق الأمثل للحل‏.‏

أقول ذلك لأن معهد التخطيط نظم عدة ندوات شاركت فيها صفغوة من عقول مصر‏,‏ تناولت قضايا الحاضر في إطار البحث عن المستقبل وضمن مشروع تحديث مصر‏,‏ وفي هذه الندوات تبين أن تحديث مصر ليس قضية تطوير الصناعة والاقتصاد فقط‏,‏ ولكنها عملية تكاملية تستلزم تحديث كل جوانب الحياة في المجتمع والأسرة والتعليم والإعلام والثقافة جنبا إلي جنب مع عملية تحديث الصناعة والاقتصاد‏.‏


وأضاف الدكتور أسامة الباز إلي ذلك أبعادا جديدة شملت‏,‏ علي سبيل المثال‏,‏ أهمية الالتفات إلي دور العلاقات الخارجية لمصر في تمكينها من تحديث نظم العمل والحياة فيها وحماية مصالحها‏,‏ علي أساس أن العلاقات الخارجية والسياسة الخارجية هي انعكاس لما يدور داخل البلد‏,‏ فلا يمكن أن يكون بلد ضعيف مهتز أو منقسم علي نفسه‏,‏ فاقد لرؤية الطريق قادرا علي أن يلعب دورا أساسيا علي الصعيد الخارجي‏,‏ حتي إذا أتيح له في فترة قصيرة مؤقتة أن يلعب هذا الدور‏,‏ بمعني أن الدولة لكي تقوم بدور خارجي نشط ومؤثر يجب أن تتوافر لها عناصر القوة الأساسية‏,‏ فاليابان وصلت إلي هذه الدرجة منذ أصبحت القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة‏,‏ ونجحت في أن تخرج من هزيمتها في الحرب العالمية الثانية بروح جديدة‏,‏ والغريب أن الدولتين اللتين هزمتا في الحرب الثانية وهما اليابان وألمانيا هما الآن قاطرتان للتقدم ولاتحديث في هذا العصر‏..‏ ولم يتحقق لها ذلك بتوافر عنصر واحد من عناصر قوة الدولة بل بتوافر عدة عناصر منها التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي والثقافي‏..‏ إلخ‏.‏

من ذلك يمكن القول إن تحديث مصر هي عملية تحول تاريخية كبري‏..‏ أقرب إلي ما حققته اليابان‏,‏ والصين‏,‏ وألمانيا‏,‏ وإلي ما حققته مصر في عصر محمد علي‏,‏ ومن دراسة هذه النماذج نصل إلي أن عملية التحديث سارت وفقا لنظرية الأواني المستطرقة‏,‏ بحيث كان التقدم في مجال ينعكس علي التقدم في جميع المجالات الأخري‏,‏ لأنه لا يمكن تحديث جزء أو قطع من البلد بينما تظل بقية الأجزاء أو القطاعات متخلفة لأن عملية التحديث في حقيقتها متشابكة ومتكاملة‏..‏ فلا يمكن تحديث الصناعة دون تحديث التعليم ومراكز البحث العلمي وأجهزة الثقافة والإعلام المسئولة عن صياغة العقل والقيم السائدة في المجتمع‏..‏ بل إن للنمط العام للسلوك للمواطنين دورا في عملية التحديث‏,‏ ولذلك يقال إن المجتمعات الأخري تنظر إلي اليابان بكثير من الاحترام لما حققته من التفوق العلمي والتكنولوجي حتي إنها ضربت أرقاما قياسية في الاختراعات يفوق المعدلات الأمريكية جعل لها ميزة كبري مع ضمانات حماية الملكية الفكرية دوليا‏.‏ لكن التقدم الياباني لم يكن بالتفوق الصناعي والعلمي والتكنولوجي وبالإنتاج الكبير الجيد القادر علي المنافسة وغزو الأسواق وهزيمة منتجات الدول المتقدمة بل بتوافر عناصر أخري مساندة‏..‏ مثل النظام الاجتماعي والانضباط في الشخصية اليابانية‏.‏


ويشير الدكتور أسامة الباز إلي كتاب مهم صدر في اليابان وترجم علي الفور إلي جميع اللغات وكانت له أصداء واسعة في الدوائر الأمريكية بالذات‏,‏ وهو كتاب اليابان تستطيع أن تقول لا الذي يستعرض أحوال اليابان حين ظلت لسنوات تابعة للولايات المتحدة سياسيا‏,‏ واقتصاديا عندما بدأت الشركات الأمريكية تعتبر اليابان ساحة مفتوحة لها‏,‏ ولكن موازين القوي تغيرت بعد أن وقفت اليابان علي قدميها‏,‏ ونجحت في عملية التحديث في كل المجالات معا‏,‏ وتغيرت بذلك العلاقة بين الولايات المتحدة واليابان ولم تعد اليابان تابعة ولا تستطيع أن تقول لا لأمريكا‏..‏ ومادامت العلاقة بين بلدين تتحدد علي أساس من منهما يحتاج أكثر إلي الآخر‏,‏ وأمريكا أصبحت تعتمد علي إنتاج اليابان من التكنولوجيا المتقدمة في مجالات معينة‏,‏ منها علي سبيل المثال الصواريخ الذكية الموجهة ذاتيا ومبرمجة ولا تخطئ هدفها‏,‏ فإنها تحقق ذلك بفضل الشرائح الدقيقة التي تنتجها اليابان‏,‏ ودون هذه الشرائح تصبح هذه الصواريخ مجرد قطع حديد طائشة طائرة في الهواء‏..!‏ فالعامل الأول للتقدم والتحديث والقوة في اليابان هو المعرفة وتحويل المعرفة إلي منتجات عالية الجودة ومتفوقة علي مثيلاتها‏..‏ وينتهي الكتاب الياباني المثير إلي أن أمريكا لن تستطيع أن تلحق باليابان في تقدم الإدارة‏..‏ فالإدارة اليابانية سبقت وتفوقت علي الإدارة الأمريكية‏..‏ والعامل الياباني أكثر براعة ودقة وصبرا وقدرة علي التحمل من العامل الأمريكي‏,‏ وإذا أرادت أمريكا أن تلحق باليابان فسوف تحتاج إلي سنوات لذلك لأنها تحتاج إلي تغيير اجتماعي واسع‏.‏


من هنا ندرك أن التحديث عملية حضارية واسعة ومتشابكة‏,‏ تتوقف علي قدرتنا علي التقدم في جميع المجالات‏,‏ وهو ما يتطلب أن نبتعد عن الاعتقاد بأننا حققنا تقدما كافيا في أي مجال‏,‏ خاصة في مجالات التعليم‏,‏ والبحث العلمي‏,‏ والتكنولوجي‏,‏ والتخطيط‏,‏ كما قال الدكتور أسامة الباز وأضاف إلي ذلك أن التحديث هدفه أن تكون الدولة قوية‏,‏ ولكي تكون قوية في الخارج يجب أن تكون قوية في الداخل أولا‏,‏ وليس بمعني القوة المادية فقط بل القوة المعنوية في المقام الأول‏,‏ وأبرز عوامل القوة هي قوة العقل بأن يكون المجتمع ككل مجتمعا رشيدا‏,‏ ولديه رؤية أو تصور أو فلسفة عامة وقدرة علي تحويل هذه الرؤية والفلسفة إلي واقع‏.‏

فقضية التحديث إذن هي قضية المصير في عالم لن يرحم الضعفاء والمتخلفين‏..‏ ولن يكون فيه مكان إلا للأقوياء‏..‏ وأمامنا أهداف كثيرة يجب أن نحققها جميعا‏,‏ وعلينا أن نحسن ترتيب الأولويات حتي لا نتوه في زحام المشكلات والأهداف‏..‏ نحتاج إلي رؤية شاملة لكيفية تحديث المجتمع ووضع خطة محكمة للعمل والتنفيذ وتعبئة المجتمع كله لإنجازها‏..‏ وليس أمامنا بديل آخر‏,‏ وإن كانت عملية التحديث يمكن إنجازها بشكل أفضل وفي وقت أقصر إذا تمت في إطار التكامل العربي العلمي والاقتصادي‏..‏ ولكن هذا موضوع يطول شرحه‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف