أكاذيب و حقائق أمريكية
في الساحة الأمريكية تختلط الحقائق بالأكاذيب ويحتار المرء اي الأصوات تعبر عن الرأي العام أو الموقف الحقيقي للإدارة الأمريكية الحالية تجاه عملية السلام في الشرق الأوسط, ومدي الالتزام الأمريكي بتعهداتها بأن تكون الشريك والراعي الملتزم بتحقيق سلام عادل ودائم لكل الأطراف.
أكاذيب جاءت علي لسان السفير الأمريكي السابق في إسرائيل مارتن إنديك الذي ترك منصبه أخيرا, وأدلي بحديث إلي صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية ادعي فيه أن عرفات لم ينكر انه يتبع سياسة العنف ولم يتنازل عن هذه السياسة, وان انسحاب إسرائيل من الضفة سيؤدي إلي ضعف موقفها ويقوي حزب الله ويؤيد نظرية أن إسرائيل لا تنسحب إلا بالقوة, وقال ايضا انه ليس أمام إسرائيل إلا أن ترغم عرفات علي وقف الإرهاب, وان الخيار العسكري لم يعد ممكنا بالنسبة للعرب.
وغريب أن تصدر هذه الأقوال من مسئول أمريكي كان سفيرا لبلاده في مصر وإسرائيل وكان قبل ذلك وكيلا لوزارة الخارجية, هل يعبر بذلك عن السياسة الأمريكية الحقيقية التي لا تظهر هكذا مكشوفة, وعارية وتتخفي وراء العبارات والمواقف الدبلوماسية المعهودة.. او انه يعبر عن رأيه الشخصي.. وغريب أن يكون في مواقع حساسة في إدارة الدبلوماسية الأمريكية وله آراء شخصية تتعارض تماما مع سياسات بلاده.
ولقد اعتدنا أن نجد في الصحافة الأمريكية وفي الكونجرس مثل هذه الآراء المعادية للعرب والمنحازة للعدوان الإسرائيلي بأكثر من الإسرائيليين أنفسهم, ولكننا لم نتصور أن تكون هذه المواقف السياسية المتناقضة مع المباديء والالتزامات الأمريكية موجودة بهذه الصورة العدائية لدي شخصيات مهمة في المراكز الحساسة في الإدارة الأمريكية.
وفي الوقت نفسه نجد صوتا ينطق بالحق, ويكشف الأكاذيب التي يروجها الإعلام الأمريكي ويرددها المسئولون الأمريكيون من أن عرفات هو المسئول عن تدهور الأوضاع نتيجة تشدده في قمة كامب ديفيد التي قدم له فيها كلينتون وباراك فرصة العمر بعرض إقامة دولة فلسطينية علي جزء من الضفة وغزة مقابل تنازله عن قضية اللاجئين وقبوله السيادة الإسرائيلية علي الحرم القدسي, وضم إسرائيل للقدس الشرقية, ولكنه رفض وخسر كل شيء.
ولأول مرة يعلو صوت في الولايات المتحدة بالحقيقة, في مقال كتبه هنري سيجمان في صحيفة هيرالد تريبيون قال فيه إن اتفاقيات أوسلو أخفقت بسبب عدم التزام إسرائيل علي الاطلاق بالهدف الوحيد لهذا الاتفاق وهو إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة, ودون ذلك فإن ما يسمي بإجراءات بناء الثقة ليست أمامها أي فرصة. فالثقة ليست مجرد كلمة يتم التشدق بها, ولكنها خطوات تجعل الفلسطينيين يرون أن في إمكانهم إقامة دولة لهم, وهذا الأمر لم تؤكده إسرائيل لا في عهد رابين ولا باراك, وينكره شاروه صراحة, فما معني الحديث عن إجراءات بناء الثقة بينما الظروف تؤدي إلي تقويض هذه الثقة.. والفلسطينيون الآن يخشون أن تكون أي خطوة هي الخطوة الأخيرة.. وشارون أعلن بشكل قاطع أن مفاوضات الوضع النهائي ليست في جدول أعماله, وأن اقصي ما يمكن أن يأمل فيه الفلسطينيون هو التوصل إلي معاهدة عدم اعتداء, واستمرار الوضع الراهن إلي جيل آخر.
والحقيقة الثانية التي يكشف عنها سيجمان هي كذب ما يقال من أن باراك عرض علي عرفات في كامب ديفيد إقامة دولة فلسطينية وعرفات هو الذي رفض, فيقول إن باراك لم يطرح هذا العرض, وما يقال عن ذلك أوهام, وحتي لو كان ذلك قد حدث ورفض عرفات فإن هذا الرفض لا يمكن أن يكون سببا في ضياع كل الحقوق الفلسطينية, وما يقوله الإسرائيليون من أن رفض الفلسطينيين أي مقترحات إسرائيلية يلغي الحقوق الفلسطينية قول ليس له أساس في القانون الدولي, والحقوق الفلسطينية اعترف بها المجتمع الدولي وهي مقررة بقراري الأمم المتحدة242 و338, فإسرائيل تعتقد أن بمقدورها إطالة أمد احتلالها بسبب جحود الفلسطينيين, بينما لم تقبل أبدا بالهوية الفلسطينية, ولم تقبل حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم, وتعتبر إقامة هذه الدولة مرهونا بموافقتها.. وتأسيس عملية السلام علي مثل هذه الافتراضات الزائفة هو الذي حال دون نجاحها في الماضي, وليس أمامها فرصة النجاح في المستقبل, وإذا كانت لدي الولايات المتحدة وأوروبا رغبة في القيام بدور فعال في إقناع الفلسطينيين بتنفيذ وقف إطلاق النار ونبذ العنف فهذا يتوقف علي شرطين, أولهما ربط وقف إطلاق النار باستئناف المفاوضات السياسية بصورة تتوافر فيها المصداقية أكثر مما هو حادث الآن.. والثاني أن تعلن الولايات المتحدة وأوروبا رفض تردد إسرائيل في الموافقة علي إنشاء دولة فلسطينية حقيقية, لأن إقامة هذه الدولة هو هدف العملية السياسية.. وبدون هذا التأكيد الجازم فإن العنف وسفك الدماء هو كل ما يمكن للمرء أن يراه في الأفق.
ويبدو من هذا المقال أن الضمير الأمريكي لم يعد يحتمل الاستمرار في إنكار الحقائق, وترديد الاكاذيب, وقد نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أيضا مقالا آخر كتبه آلان سايبرس قالت فيه إن الرئيس كلينتون ألقي علنا علي عرفات مسئولية فشل التوصل الي حل نهائي, ولكن الحقيقة التي لم يعلنها أنه كان غاضبا من باراك بسبب أساليبه في التفاوض.
هكذا تبدو الساحة الأمريكية.. أصوات كثيرة منحازة إلي الموقف الإسرائيلي الظالم وتتبني أهدافه العدوانية.. وأصوات قليلة تعبر عن الضمير الأمريكي الذي يبدو أنه علي وشك أن يستيقظ.. ونأمل في أن يستيقظ قبل فوات الوقت المناسب.. وتعود الإدارة الأمريكية إلي الإمساك بزمام الأمور وكبح جنون القوة الإسرائيلية والقيام بمسئوليتها.. واستعادة ثقة العرب في مصداقيتها.