محاكمة مجرمى الحرب

في عام‏67‏ قامت مؤسسة برتراند راسل للسلام بتشكيل لجنة من مجموعة من كبار المثقفين والمفكرين العالميين تمثل ضمير العالم للتحقيق في جرائم اسرائيل التي ارتكبتها أثناء وبعد العدوان‏,‏ وأجرت محاكمة لمجرمي الحرب الاسرائيليين لم تكن لها صفة قضائية دولية‏,‏ ولكن اصداء تقريرها إلي الأمم المتحدة كانت مهمة لكشف الاعمال الوحشية التي دأبت اسرائيل منذ انشائها علي ارتكابها ضد السكان المدنيين في المناطق العربية المحتلة‏.‏

وكان الفيلسوف البريطاني برتراند راسل قد انشأ هذه المؤسسة‏,‏ وبفضل مكانة راسل العالمية اكتسبت المؤسسة هيبته وصار لها تأثير معنوي وأدبي وإعلامي يفوق تأثير أجهزة الاعلام العالمية جميعا‏..‏ وكان لراسل صوت مسموع في الازمات الدولية‏,‏ وفي معارضة الحروب العدوانية‏,‏ ومساعدة الشعوب والجماعات والافراد كلما تعرضوا للاضطهاد‏..‏ وكان لها انصار ومؤيديو يشاركون في عضويتها من كبار الشخصيات السياسية‏,‏ والثقافية في بريطانيا‏,‏ والولايات المتحدة‏,‏ واليابان‏,‏ والهند‏,‏ والفلبين‏,‏ واستراليا‏,‏ وفرنسا‏..‏ الخ‏..‏ وقامت المؤسسة وأعضاؤها ذوو التأثير في الرأي العام في بلادهم بدور كبير لمحاربة الدعايات الاستعمارية والعنصرية بكل صورها‏.‏


ولم يقتصر دور مؤسسة راسل علي هذا الدور الانساني والسياسي‏,‏ ولكنها قامت بمهمة تاريخية حين شكلت لجنة للتحقيق في جرائم الحرب الأمريكية ضد شعب فيتنام‏,‏ وعندما اكتملت عناصر الادانة شكلت محكمة راسل التي قدمت الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون ومساعديه كمجرمي حرب‏,‏ واثارت هذه المحاكمة الرأي العام في الولايات المتحدة وفي العالم‏,‏ بعد أن أظهرت هذه المحاكمة الفظائع التي ارتكبتها القوات الأمريكية بأوامر صريحة من قياداتها العسكرية والسياسية‏..‏ وبعد عدوان اسرائيل عام‏67‏ واحتلال قواتها لاراضي ثلاث دول عربية تلقت المؤسسة رسالة من الجامعة العربية تضمنت وقائع محددة عن الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل ضد الاسري والسكان المدنيين‏,‏ وتحركت مؤسسة راسل وقررت ايفاد لجنة تحقيق‏,‏ قامت بجولات في مصر وسوريا ولبنان والاردن‏,‏ وأجرت لقاءات مع الشهود والضحايا‏,‏ وشاهدت علي الطبيعة التخريب في المنشآت المدنية والمرافق‏,‏ وكما هي عادة اسرائيل رفضت منح اللجنة أي تسهيلات للقيام بعملها داخل اسرائيل أو في الاراضي العربية المحتلة‏,‏ وسجلت اللجنة احترامها لما لقيته من مساعدة من حكومات ومنظمات الدول العربية وقالت أنها لمست الفهم السليم لدور الرأي العام العالمي‏,‏ والمنظمات الدولية الديمقراطية في خدمة القضايا الانسانية‏.‏


في ذلك الوقت زارت اللجنة مدن القناة ومستشفياتها‏,‏ وعايشت ضحايا العدوان من المهجرين من مدن القناة‏,‏ واللاجئين الفلسطينيين‏,‏ والمطرودين من أرضهم وبيوتهم في الجولان والضفة وغزة‏..‏ وكان المثير أن اللجنة كانت تدقق في مناقشة كل من تقابله‏,‏ وتجمع الوثائق‏,‏ والصور‏,‏ وتراجع أقوال الشهود‏,‏ وتطلب تقارير طبية‏,‏ وتناولت في تحقيقاتها أنواع الاسلحة التي استخدمتها القوات الاسرائيلية‏,‏ والخسائر في الارواح والمباني‏,‏ وحوادث الاعتداءات التي قامت بها القوات الإسرائيلية بعد قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار والتزام الدول العربية بتنفيذه‏,‏ وقضت اللجنة في هذه التحقيقات عشرة أيام وسجلت في تقريرها قيام اسرائيل بتعطيل قيام الصليب الأحمر الدولي باسعاف الجنود والمدنيين في سيناء أكثر من سبعة أيام بعد قرار وقف اطلاق النار يوم‏16‏ يونيو‏67‏ برغم التسهيلات التي قدمتها الحكومة المصرية‏,‏ وترتب علي هذه الجريمة هلاك المئات‏..‏ ومعلوم أن الانسان يموت بعد خمسة أيام من العطش في الظروف العادية‏,‏ وفي أقل من ذلك في ظروف الصحراء‏,‏ مما يعني ان اسرائيل كانت تقصد منع عمليات الانقاذ والاسعاف إلي أن يهلك الجميع‏!‏ وهذه أبشع جريمة من جرائم الحرب التي تستحق المحاكمة‏,‏ وتفوق في بشاعتها وآثارها ما قام به قادة الصرب من جرائم وتجري محاكمتهم عليها أمام محكمة جرائم الحرب الدولية‏.‏


كما سجلت لجنة راسل ان اسرائيل استخدمت أنواعا من الاسلحة المحرمة دوليا وتأكدت ان اسرائيل استخدمت النابالم لضرب المدنيين والعسكريين‏,‏ وجمعت العديد من الافلام والصور التي لاتدع مجالا للشك في ذلك‏,‏ وسجلت اللجنة أوجه تشابه بين جرائم الحرب الأمريكية في فيتنام وجرائم الحرب الاسرائيلية في الاراضي العربية‏..‏ وسجلت اللجنة أن اسرائيل استخدمت أسلحة تتفجر داخل جسم الانسان مثل رصاص دمدم ومثل نوع من الرصاص المزدوج الاوجه يتفجر ويمزق جسم من يصاب به‏,‏ وحصلت اللجنة علي صور الاشعة لبعض الحالات المصابة‏,‏ وقامت بزيارة المستشفيات لمشاهدة المشوهين الذين بقوا علي قيد الحياة من ضحايا هذه الاسلحة‏.‏

وسجلت اللجنة وقائع ضرب الطائرات والدبابات الاسرائيلية للمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس‏,‏ وشاهدت البيوت المتهدمة وقابلت أمهات وزوجات وأبناء الضحايا‏..‏ وسجلت اللجنة اعتداءات اسرائيلية بالطائرات في أثناء وجودها وصورت آثار التدمير والجرحي والمصابين‏..‏ وضرب عربة اسعاف وحيدة في القنطرة غرب‏,‏ وشاركت اللجنة الأهالي في اطفاء الحرائق وازالة الانقاض‏.‏


بعد ذلك عقدت اللجنة مؤتمرا صحفيا عالميا وقدمت تقريرها إلي الأمم المتحدة مدعما بالصور والافلام والتسجيلات الصوتية‏.‏ وهذا التقرير وثيقة بالغة الأهمية تستطيع الدول العربية ان تقدمه إلي محكمة مجرمي الحرب عندما يحين الوقت لذلك‏.‏

ومسلسل العدوان الإسرائيلي مستمر‏,‏ بنفس الوقائع والفظائع‏,‏ في الضفة وغزة‏,‏ وقد سجلت ذلك بعثة لجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة‏,‏ ولكن لجنة ميتشيل لم تسجله‏,‏ كما لم تسجل لجنة حرية الاديان الأمريكية شيئا عن الجرائم الاسرائيلية‏.‏


وأعتقد أن هذا هو الوقت المناسب لتتحرك الدول والشعوب العربية لدعوة جميع المؤسسات والمنظمات الدولية إلي تسجيل الاعتداءات الاسرائيلية علي الشعب الفلسطيني والتي تتوافر فيها أركان جرائم الحرب كاملة‏..‏ كما أن الجامعة العربية عليها الدور الأكبر في هذا التحرك‏,‏ وفي تسجيل هذه الجرائم بالتفصيل بالمستندات والوثائق والصور والافلام لتكون أدلة الاتهام حين يأتي الوقت لمحاكمة مجرمي الحرب‏..‏ ولابد أن يأتي هذا الوقت‏..‏ ولو طال الزمن‏.‏


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف