دور المثقفين الآن
للدكتور علي الدين هلال دراسة مشهورة عن ازمة الجماعة الثقافية في مصر, طرح فيها نتائج أبحاثه عن أسباب هذه الازمة وهل هي نابعة من طبيعة تكوين المثقفين انفسهم, ام نابعة من الظروف السياسية والاقتصادية المحيطة بهم؟!
وأهمية هذه الدراسة انها تقدم رؤية استاذ متخصص في العلوم السياسية لظاهرة سلبية المثقفين, وعدم مشاركتهم بالقدر الكافي الذي يلبي احتياج المجتمع الي فكرهم وحشد جهودهم للمساهمة في عملية بناء وتحديث مصر التي تمثل المشروع القومي الكبير الذي يحتاج الي تجمع المخلصون حوله في كل المجالات سواء كان هؤلاء المخلصين من رجال السياسة, او من رجال المال والاعمال, او من رجال التعليم او البحث العلمي و التكنولوجيا..الخ, ويأتي دور المثقفين في الطليعة, والمقدمة لقيادة الفكر وضمان استمرار السير علي الطريق الصحيح دون ان تضل الخطي او تتبدد الطاقة في الجري وراء سراب.. والمثقفون وإن كانوا ليسوا وحدهم في الاخلاص والمسئولية, ولايحتكرون العمل للتغيير والتحديث, الا ان التغيير لايمكن ان يتم بدونهم وإغفال دور المثقفين أو التقليل من أهمية هذا الدور يعني ترك عملية التغيير والتحديث للعشوائية او لاجتهادات ينقصها الوعي والرشد وهما من نتاج الثقافة والمثقفين بالدرجة الاولي.
وفي تحليل الدكتور علي الدين هلال لدور المثقفين في مصر يقول انهم يمرون بأزمة, ليست وليدة الامس القريب, ولكنها تنبع من طبيعة تكوينهم وايضا من الظروف السياسية والاقتصادية حولهم, وفي رأيه أن هناك اربع اشكاليات تواجه الجماعة الثقافية في مصر: اشكالية انفصام الجماعة التي بدأت بوادرها منذ القرن التاسع عشر مع ادخال نظام التعليم المدني, مما ادي الي وجود نظامين: نظام تعليمي مدني وآخر ديني وادي ذلك الي وجود جماعتين ثقافيتين, مع مافي ذلك من انقسام واختلاف في الرؤية وصعوبة التوحد او الانسجام الثقافي في المجتمع.. واشكالية العلاقة مع السلطة التي يري الدكتور علي الدين هلال انها كانت ومازالت تمارس انواعا من القهر علي المثقفين, واشكالية العلاقة مع المجتمع او مايطلق عليه جرامتشي ارتباط المثقف بطبقة اجتماعية يعبر عنها ويدافع عن مصالحها وهذا يقود الي ضرورة العمل علي تأكيد الحريات اولا, وثانيا تأكيد الثقافة الوطنية في ظل اقامة علاقات مع اسرائيل وتغيير النظام التعليمي في مصر, وثالثا تأكيد النظرة النقدية, وبعبارة واحدة فان المطلوب في رأي الدكتور علي الدين هلال ثورة ثقافية تمهد لحركة فكرية شاملة.
وهذه الدعوة الي ثورة ثقافية يشارك الدكتور الدين هلال فيها عدد كبير من الباحثين المخلصين الذين يشغلهم امر الإعداد الجيد لبناء مصر جديدة لعصر جديد.. وقد بدأ فعلا هذا العصر الجديد ولم تبدأ حتي الآن المقدمة الضرورية كي نبدأ نحن الدخول فيه, ومازال مفهوم النهضة الثقافية محصورا في إقامة بعض المباني والقصور, او ترميم بعض الآثار, او اقامة الحفلات والمهرجانات, وهذه بلاشك انشطة مطلوبة, ولكنها لاتغير المجتمع, ولاتدفع وحدها للانطلاق, هي انشطة جيدة ولكنها لاتؤسس قواعد تحديث مصر التي نتحدث عنها.. وليس من المصلحة الاستسلام للشعور بالرضا عن الذات, لان ذلك الشعورليس من خصائص الشعوب المتوثبة التي تريد الوصول وثبا وبسرعة الي المستقبل.. والتاريخ المصري تنتابه فترات من الهدوء والاكتفاء بتيسير الامور اليومية مما يدخل في عمل المديرين والادارة, وتنتابه فترات من التغيير الحماسي العميق وهذا يدخل في اختصاص القادة واصحاب الرسالات.. وطبيعة مصر, ودورها التاريخي والمستقبلي هو دور قيادي في الثقافة بالذات والاشعاع الثقافي المصري يمتد الي دوائر واسعة تتجاوز حدودنا الجغرافية.. والدور الحضاري لمصر و مسئوليته وليس مجالا للمباهاة او التفاخر.. ولذلك علينا دائما ان نسأل انفسنا: ماهو الدور الذي يجب ان تقوم به مصر في القرن الحادي والعشرين.. وهل نحن عند بداية النهاية لحلم التوحد العربي ام نحن في نهاية البداية لتحقيق هذا الحلم..؟ وسوف نجد ان مسئولية الاعداد لهذا المستقبل ملقاة علي عاتق السياسيين وحدهم, بينما الدور الطليعي كان يجب ان يكون للمثقفين لاعداد الرأي العام وتهيئة المجتمع كله للمشاركة في عملية التغيير والبناء الكبري.. دور المثقفين تطوير مفهوم الثقافة من مرحلة الاحتفالات والمهرجانات الي مرحلة غرس القيم الجديدة في الوجدان الشعبي: قيم العلم, والعقل, وحرية التفكير, وقبول التعددية, والتواصل مع العالم وعدم الوقوع في خطأ العزلة والتقوقع ظنا بأن ذلك هو الصواب لحماية الخصوصية والشخصية القومية وحماية المعتقدات والقيم المتوارثة, واجب المثقفين والمسئولية عن الثقافة مواجهة تيار رفض العقل ومعاداة حرية الفكر.
واذا كانت اجهزة الثقافة قد احفقت في تجميع المثقفين وراء المشروع الحضاري لتحديث مصر.. فإن ذلك ينقل المسئولية الي المثقفين انفسهم ليملأوا هذا الفراغ.. وهم قادرون علي ذلك لانهم مؤهلون للقيادة وليس للتبعية, وقادرون علي الوعي بمسئوليتهم واخذ زمام المبادرة دون انتظار دعوة لان معارك الوطن الآن في اشد الحاجة إليهم