رسائل إلى الصديق الأمريكى

في حديثه إلي مجلة دير شبيجل الألمانية وجه الرئيس مبارك رسائل إلي الصديق الأمريكي تعبر عن الاحساس بالخطر من اشتداد العنف الاسرائيلي ونتائج ذلك علي الشعب الفلسطيني والشعوب العربية‏.‏

ولخص الرئيس رسائله في كلمات غاية في الوضوح‏:‏ لن نضغط علي القيادة الفلسطينية وأمريكا لا تضغط علي اسرائيل‏,‏ شارون لايتعامل إلا بالعنف‏..‏ أي محاولة للتخلص من عرفات ستؤدي إلي كارثة دموية في المنطقة‏..‏ بادرة الأمل التي ظهرت في اتفاقية أوسلو تبددت‏..‏ وأخيرا فإن أهم الرسائل كانت قول الرئيس‏:‏ إذا سمحت أمريكا لشارون بأن يفعل مايريد فإن بوش يضر بمصالح بلاده وبأصدقائه‏.‏


والحقيقة أن الانحياز الأمريكي الذي بلغ أقصي درجاته في هذه الأيام مع الادارة الجديدة التي تؤمن بمبدأ حل المشاكل بالقوة‏.‏ وأن من يستطيع أن يفرض إرادته بالقوة ويكسر إرادة الآخر فهو صاحب الحق بلا منازع‏,‏ وقد سبق أن نبه كثير من الباحثين والمفكرين الأمريكيين إلي خطورة هذا المنطق‏,‏ وكانت أكثر الأصوات قوة صوت البروفيسورة شيرايل روبنبرج استاذ العلاقات الدولية‏,‏ التي أعلنت بوضوح نتيجة دراساتها للأوضاع في الشرق الأوسط‏,‏ واقامتها في لبنان والأردن ومصر واسرائيل والضفة وغزة وقالت‏:‏ إن العلاقة العاطفية الخاصة بين اسرائيل والولايات المتحدة ضارة بالمصالح الأمريكية بدرجة تفوق إضرار الحرب الفيتنامية بتلك المصالح‏.‏ لأن التورط الأمريكي في فيتنام كان موضع نقد ومعارضة علي أوسع نطاق لعدم وجود جماعات ضغط لصالح البقاء في المستنقع الفيتنامي‏,‏ أما مع اسرائيل فإن جماعات الضغط تمنع النقد في داخل المجتمع الأمريكي علي أي مستوي لعلاقاتها التي تجعلها تسكت دائما وتؤيد كثيرا الممارسات الإسرائيلية وهي ممارسات تتعارض مع مبدأ العدالة‏,‏ ومع الشرعية الدولية‏,‏ ومع القانون الدولي‏,‏ وتتعارض حتي مع الاعتبارات الانسانية‏..‏ والعلاقة المؤيدة للظلم والعدوان سوف تسبب الإضرار بالمصالح الأمريكية في المدي القريب‏,‏ وفي المدي البعيد‏.‏

صحيح أن الأصوات التي توجه النقد إلي الانحياز الأمريكي الأعمي لكل ما تفعله اسرائيل أصوات قليلة‏,‏ وسرعان ما تضيع أصداؤها في صخب الاعلام المؤيد لكل المغالطات الاسرائيلية‏,‏ ولكن الساحة الأمريكية لاتخلو دائما من صوت عاقل وحكيم يحذر من نتائج النظرية الخاطئة التي تحكم السياسة الأمريكية وهي أن اسرائيل هي التي تخدم المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط‏.‏ ويقولون إن هذه النظرية تخلط بين ماهو في صالح اسرائيل‏,‏ وماهو في صالح الولايات المتحدة‏,‏ والمصالح وإن كانت متشابكة ولكنها ليس متطابقة‏,‏ واسرائيل ليست وحدها الصديق الذي يمكن أن يخدم المصالح الأمريكية‏,‏ ولو تدخلت أمريكا لاقامة سلام قائم علي العدل والحق‏,‏ فسيؤدي ذلك إلي استقرار المنطقة‏,‏ ونحو العلاقات بين أمريكا وجميع شعوب المنطقة‏,‏ ونمو أمريكا تأييدا قويا لها من الرأي العام‏,‏ مادامت تطبق المبادئ التي تعلنها عن الحرية‏,‏ والعدالة‏,‏ والكرامة الانسانية‏,‏ والمساواة‏..‏


ولم تكن شيرايل روبنبرج وحدها هي التي أعلنت هذه الحقيقة‏,‏ ولكن كان هناك مفكرون لهم وزنهم مثل تشومسكي‏,‏ وجول فندلي‏,‏ أظهروا زيف الادعاء بأن اسرائيل هي الرصيد الاستراتيجي لأمريكا‏,‏ ولكن قيمة الدراسات التي قامت بها شيرايل روبنبرج أنها كانت ثمرة عشر سنوات متصلة من البحث والمعايشة‏,‏ وأهم من ذلك أنها جاءت لتمثل انقلابا في فكر الباحثة ذاتها‏,‏ وهي تقرر أنها بدأت ابحاثها وهي متحيزة لاسرائيل ومقتنعة بأن علي أمريكا أن تؤيد اسرائيل علي طول الخط‏,‏ بل وكانت تؤمن بأن من مصلحة أمريكا أن تتوسع اسرائيل في احتلال الأراضي العربية‏,‏ وتفرض سيطرتها السياسية والاقتصادية‏,‏ وتصبح هي القوة الاقليمية المهيمنة علي المنطقة‏,‏ وبعد عشر سنوات من الحياة وسط العرب والاسرائيليين‏,‏ ودراسة كل ما يقوله وما يفعله الاسرائيليون اكتشفت العكس‏,‏ وتوصلت إلي أن أسلوب التربية والتنشئة الاجتماعية الأمريكية‏,‏ وبرامج التعليم من أولي مراحله حتي المراحل الجامعية والدراسات العليا‏,‏ تعمق لدي الأمريكيين في كل المستويات الثقافية والاجتماعية تقريبا فكرة مسيطرة‏,‏ أو عقيدة لاتقبل المناقشة‏,‏ وتصل إلي درجة البديهيات في الفكر الأمريكي‏,‏ بأن مصالح أمريكا مرتبطة بمصالح إسرائيل بنسبة مائة في المائة‏,‏ وبهذا اليقين بدأت دراساتها هي الأخري مثل سائر الأمريكيين وسافرت إلي الشرق الأوسط وأقامت فيه‏,‏ وتوصلت بعد عشر سنوات من الحوار مع جميع الأطراف والاحتكاك بالواقع والتغلغل في الوجدان الشعبي العربي إلي أن المصالح القومية الأمريكية ترتبط أساسا باستقرار منطقة الشرق الأوسط‏,‏ ولايمكن أن يتحقق الاستقرار ويدوم إلا إذا راجعت الولايات المتحدة نفسها‏,‏ وتراجعت عن سياسةالانحياز الدائم لاسرائيل والتغاضي عن الحقوق والمصالح العربية‏,‏ وتجاهل الرأي العام الذي أصبح قوة مؤثرة في تحديد السياسات والضغط علي القيادات‏.‏

ومع أن عددا من المفكرين الأمريكيين الكبار نبهوا إلي المغالطات والأكاذيب التي تحكم الفكر الأمريكي مقل فكرة عداء العرب للسامية وهي كاذبة من أساسها‏,‏ ومثل التسليم بصحة قوائم الأعداء التي تنشرها رابطة التشهير ومنظمة ايباك اليهودية في أمريكا‏,‏ وكثير من الأدبيات الأمريكية المتعلقة باسرائيل قائمة علي عدم التوازن وعدم الموضوعية‏..‏ فالقول إن حشد واستخدام القوة لاسرائيل يكفل لها الحماية من جيرانها الذين يريدون القاءها في البحر أكذوبة علي غير أساس‏,‏ والقول بالطابع الانساني الديمقراطي المستنير لدولة اسرائيل هو أيضا بغير دليل‏,‏ بل إن الواقع يثبت عكسه‏,‏ ويكفي ما اثبته باحث أمريكي كبير هو ناداف سافران في كتاب بعنوان‏:‏ إسرائيل‏:‏ الحليف المستعد دائما للقتال ورصد فيه‏390‏ مرجعا تصور اسرائيل علي أنها الضمان الوحيد لحماية المصالح الأمريكية‏..‏ ومثل ذلك كثير‏..‏ والمهم‏:‏ متي تجد هذه الرسائل آذانا صاغية‏..‏؟

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف