لماذا لا نبدأ؟

كانت نتائج وظواهر الانتخابات الأخيرة‏,‏ هي الحصاد لكل ما زرعناه في السنوات الأخيرة‏,‏ وكانت الرد البليغ علي المفكرين والرافضين لأهمية التربية السياسية‏,‏ ولا يتفق مع المنطق أن نختار طريق ممارسة الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية‏,‏ ونجعل حرية الرأي من ثوابت نظامنا السياسي‏,‏ ثم لا نبذل الجهد الكافي لإعداد الشباب للتعامل مع هذه الأمور‏,‏ واذا كان صحيحا أن أجهزة التربية والثقافة والإعلام والشباب تحتاج الي رؤية جديدة‏..‏ فلماذا لا نبدأ‏..‏؟

وأذكر أن مجلس الشوري أعد تقريرا عن تنمية الإنسان المصري‏,‏ لم يجد الاهتمام الكافي من أجهزة ومؤسسات التربية والثقافة والتعليم والشباب‏,‏ وقد نبه هذا التقرير مبكرا جدا‏,‏ الي بدء ظهور سلبيات تسللت الي الشخصية المصرية‏,‏ وطالب مجلس الشوري بالتصدي لها وعلاجها‏,‏ قبل أن تصبح من القيم والظواهر السائدة في المجتمع‏,‏ ولكن التقرير ذهب مع كثير غيره إلي دائرة النسيان‏,‏ ولقي ـ كالعادة ـ من يشكك في جدواه‏,‏ ويري أن فيه مبالغة لا داعي لها‏,‏ وأن كل شيء يسير علي أحسن ما يكون‏,‏ وليس لدينا سلبيات والحمد لله‏,‏ وكانت النتيجة أن تفجرت هذه السلبيات‏,‏ كما تفجرت مشكلات أخري تجاهل مواجهتها منذ البداية خبراء التزوير والتزييف والتهوين‏..!‏


نبه تقرير مجلس الشوري‏,‏ الي ظهور بوادر سلبية في الشخصية المصرية‏,‏ مثل الفردية والأثرة‏,‏ ونتيجة ذلك ضعف الاستعداد للتعاون مع الآخرين أو العمل في فريق متكامل‏,‏ واستمرار هذا الاتجاه قد يجعل كل فرد جزيرة وحده‏,‏ لا يحتمل التعامل أو التعاون في عصر لم تعد فيه العبقرية عبقرية فردية‏,‏ ولكنها أصبحت عبقرية جماعية‏,‏ وهذا ما نبه اليه أحمد زويل حين قال‏:‏ إن النتائج المذهلة التي حققها بأبحاثه العلمية‏,‏ لم تكن نتيجة جهده وحده‏,‏ ولكنها كانت نتيجة مجهود فريق لايزيد علي مائة باحث‏,‏ وفي لحظة المجد والانتصار‏,‏ حرص أحمد زويل علي ألا ينسب الفضل كله لنفسه‏,‏ وعندما سئل عن أسباب تخلف البحث العلمي في مصر‏,‏ قال إن من أهم الأسباب غياب روح الفريق وعدم وجود المجتمع العلمي‏.‏

ومع الفردية ظهرت في الشباب روح اللامبالاة‏,‏ وأصبح الشعور بالمسئولية أقل مما كان في الأجيال السابقة‏,‏ وكثيرا ما يتهرب الشباب من تحمل المسئولية ويختار موقفا سلبيا من القضايا العامة‏,‏ ولم تعد لديه روح المبادأة‏,‏ والاعتماد علي النفس‏,‏ ولكن ظهرت روح التواكل‏,‏ بالاعتماد علي الأب كلية‏,‏ ثم الاعتماد علي السلطة‏,‏ وإلقاء المسئولية عليها في حل المشكلات‏,‏ حتي المشكلات التي يسببها المواطن نفسه‏,‏ مثل مشكلات النظافة والبيئة والمرور ومخالفات المباني‏..‏الخ‏,‏ وكبرت هذه الظاهرة حتي أصبحت من سمات الكبار أيضا‏,‏ فأصبحوا لا يتحركون إلا بعد التوجيهات‏,‏ وهم دائما في موقف الانتظار لهذه التوجيهات في كل الأمور كبيرها وصغيرها‏.‏


وكلنا نشكو من ضعف الشعور بالانتماء‏,‏ وآثاره من ضعف الاهتمام بالقضايا العامة‏,‏ وقلة الحرص علي المال العام‏,‏ وغياب قيمة احترام العمل‏,‏ والميل الي بذل أقل مجهود والمطالبة بأكبر كسب‏,‏ والسعي الي الظهور علي أكتاف الآخرين بالمظهرية والادعاء وليس بالعمل والكفاءة والمجهود‏,‏ واعتبار القدرة علي القفز وتخطي الكفاءات شطارة‏.‏

ويرتبط بذلك اهتزاز ميزان القيم في نفوس عدد ليس بالقليل‏,‏ ويظهر ذلك في تصرفات تمثل عدم الالتزام‏,‏ والخروج علي التقاليد وأصول اللياقة‏,‏ واللجوء الي طرق ملتوية لتحقيق التطلعات‏,‏ وفي بعض الأحيان أصبح ينظر الي الاختلاس والتزوير والغش علي أنها تصرفات عادية‏,‏ حتي تسرب الي بعض النفوس ـ أحيانا ـ أنها تصرفات لابد منها للعيش في الظروف الراهنة‏,‏ وأن الإنسان بدونها يضيع في الزحام‏.‏


ومن هذه السلبيات أيضا‏,‏ انعدام الخوف من السلطة‏,‏ والجرأة علي القانون‏,‏ والتطاول علي الرؤساء وضياع هيبتهم‏,‏ مما جعل العمل في بعض المواقع يسير بلا توجيه أو قيادة فعلية‏..‏ وهذه السلبيات وغيرها لا يصعب ملاحظتها في السلوك اليومي‏,‏ وأهمها ضعف شعور المواطن بالمواطن الآخر حتي باتت الأنانية تملأ المكان وتسد الطريق علي الجماعة‏,‏ كما قال التقرير‏.‏

والأمر المؤكد أن هذه الظواهر السلبية‏,‏ ليست متأصلة في الشخصية المصرية‏,‏ ولكنها جديدة وطارئة نتيجة القصور في أداء مؤسسات التربية والثقافة والإعلام والشباب في القيام بدورها في التربية الاجتماعية والسياسية‏,‏ وفي التوجيه وغرس القيم الايجابية‏,‏ والتصدي للتيارات الفكرية الغريبة الوافدة‏,‏ وإن كان مجلس الشوري قد ركز وقتها علي أن السبب هو ضمور الثقافة‏,‏ وقصور أساليب التربية في الأسرة والمدرسة والمجتمع‏,‏ وأيضا قصور مؤسسات التوجيه الديني لأن التربية الدينية تقع عليها مسئولية كبري في هذا المجال‏.‏


وإن كان مجلس الشوري قد طالب يومها بوضع استراتيجية جديدة لأجهزة الثقافة والتربية والاتصال الجماهيري‏,‏ إلا أن ذلك لم يحدث بالصورة التي كانت مطلوبة‏,‏ والنتيجة أن هذه السلبيات اتسعت دائرتها وأصبح العمل المطلوب أكبر والتسويف قد تترتب عليه نتائج أولها أن تتعمق هذه السلبيات ويصبح من العسير تغييرها أو اقتلاع جذورها‏.‏

وأذكر في بداية كلمة الرئيس كلينتون‏,‏ أنه جعل علي رأس أولوياته‏:‏ إعادة القيم الأمريكية بعد أن رأي أنها علي وشك التآكل‏..‏ كذلك فعل انتوني بلير عندما بدأ تنفيذ سياسته الجديدة لتغيير المجتمع البريطاني تغييرا هادئا وإعادة الشباب والحيوية وروح التجديد إليه‏,‏ وأعلن أن القيم لابد أن تعود مرة أخري الي مكانها في نفوس الأفراد وفي المجتمع‏,‏ ونحن أيضا نحتاج الي ثورة تربوية بالمعني الشامل للثورة وللتربية‏,‏ ولن يتحقق ذلك إلا بتغيير الفكر السائد في الأجهزة المسئولة لكي تستعيد تقوية عضلاتها التي ترهلت بسبب نظرية أن ما هو قائم هو أحسن ما يمكن تحقيقه‏,‏ وليس هناك ما نعمله أكثر مما عملناه‏,‏ وكل مطالبة بالتغيير هي تعبير عن الحقد والعداء للنجاح‏..‏ ولو كان ما نراه هو النجاح فما هو الفشل‏..‏؟


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف