مدرسة الجواسيس
رحل عن عالمنا الدكتور أحمد خليفة, مؤسس مدرسة البحث الاجتماعي في مصر, وهي مدرسة تميزت ـ حين كان رئيسا لمركز البحوث الاجتماعية ـ بالنزاهة العلمية, والدقة, وكشف حقائق وخفايا ومشكلات المجتمع دون مواربة أو نفاق.. وتميز هو ـ كمفكر اجتماعي بالإخلاص الشديد, والبعد عن الشلل, ولذلك عاش في منطقة شبه الظل بعيدا عن الأضواء المبهرة التي عاش فيها كثيرون ممن هم أقل كفاءة وعلما ومقدرة منه, ولكنه كان مكتفيا بثقته في نفسه, وباحترامه لذاته, وراضيا بما قدمه لوطنه, ولم يكن يريد من أحد جزاء ولا شكورا.
والدكتور أحمد خليفة ترك بصماته في تاريخ الحياة البرلمانية بشجاعته في الدفاع عن حرية الرأي, وفي إخلاصه للمصلحة العامة وترفعه عن دوائر أصحاب المصالح الخاصة, الذين يلبسون الحق بالباطل.. كما ترك صفحة مشرفة للتاريخ في الفترة التي عمل فيها وزيرا للشئون الاجتماعية والأوقاف, حيث تصدي للفساد في الدوائر العليا في المجلس الأعلي للشئون الإسلامية, وانهزم في هذه المعركة وخرج من الوزارة عام1967 خروج الفارس الذي لم تنكسر ارادته, وأخيرا ترك من خلال قيادته لمركز البحوث الاجتماعية مدرسة علمية تخرج فيها أساتذة وخبراء وباحثون هم الآن موضع التقدير العلمي في كل مكان, وترك أيضا حصيلة هائلة من الأبحاث الاجتماعية القائمة علي المنهج العلمي, بما يقتضيه هذا المنهج من الموضوعية وإعلان الحقيقة مهما تكن مؤلمة, أو لا ترضي بعض المنافقين, الذين يحرصون علي إظهار كل شيء كاملا وجميلا ويتقنون فن إخفاء الحقائق حتي في مجال البحث العلمي.
وأعتقد أن أهم ما تركه لنا الدكتور أحمد خليفة عشر وصايا هي خلاصة تجاربه في ميادين الدراسات الاجتماعية, وفي الحياة الطويلة العريضة التي عاشها بعقله ووجدانه, وانغمس في الحياة السياسية, وفي قمة العمل التنفيذي, ثم في موقع المفكر المتأمل لأحوال وتطورات المجتمع المصري, وصعود وهبوط الشرائح الاجتماعية والتحولات الجذرية في مسار الحياة الاقتصادية والسياسية, وقد أودع هذه الوصايا في كتاب لا يعرفه إلا القلة ممن يعرفون قدر الدكتور خليفة ومكانته, لأنه لم ينشره في دار نشر معروفة, واكتفي بطبعه ضمن مطبوعات المركز القومي للبحوث, وهي بطبيعتها محدودة التوزيع, ولا يسعي اليها إلا من يعرف قيمتها, وفضلا عن ذلك, فقد كان الدكتور خليفة ممن يجيدون العمل ولا يجيدون الدعاية, والعلاقات العامة, والسعي الي أضواء الدعاية والإعلام, ولم يكن التليفزيون يعرف الطريق اليه بينما كان يحتل المساحة الأكبر في التليفزيون بعض الأدعياء, الذين ظهرت حقيقة بعضهم بعد ذلك, ولم تظهر حقيقة البعض الآخر بعد.
وفي مقدمة هذه الوصايا, يحدد الأسباب التاريخية والموضوعية التي تسببت في فجوة التصديق بين الحاكم والمحكوم, وفجوة المعرفة, وفجوة القانون, وهو يضع قاعدة تقول إن معيار صحة النظام السياسي هو في شعور المواطن بصدق هذا النظام, وقد لايكون هذا النظام فريدا في عدالته أو كفاءته, لكن العبرة بالشعور العام إزاءه, فإذا ساد الشعور بأنه نظام غير صادق سادت السلبية أو اللامبالاة أو مايشار اليه أحيانا بفقدان الشعور بالانتماء, وهو ليس إلا ترجمة لفقدان المصداقية والاحتجاج علي حرمان المواطن من حقوقه وحرياته, هذا ما قاله في الستينيات وقال في السبعينيات إنه بدون أن نقدم في حق وصلاحية رأس المال الخاص في أن يقوم بالجانب الأكبر في العملية الانتاجية والنشاط الاقتصادي, فإنه لايمكن أن نقبل بضعف الدولة إزاءه, فالسوق الحرة قد تعني انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي, ولكنها لاتعني أبدا ترك الدولة لدورها كسلطة قوية تحمي سلامة الحياة الاقتصادية, وتزيل أي عدوان غير مشروع أو إخلال بقواعد اللعبة, وتلك معادلة صعبة, بغيرها تصبح السوق الحرة سوقا للاستغلال, ونزها للثروات, بل تصبح أداة ضد الديمقراطية, وتعزل الشعب عن حكامه, ولهذا فإن دولة مثل الولايات المتحدة, تطلق العنان تماما لرأس المال الخاص, لديها ترسانة من الأسلحة تضمن ألا تتوغل الشركات الكبري في العمل من أجل مصالحها علي حساب القانون والنظام الاقتصادي نفسه, ولهذا لا تتردد الحكومة في الدخول في معارك ضارية مع الشركات العملاقة, وينتهي الأمر عادة بالحكم علي هذه الشركات بأحكام رادعة, أما فجوة المعرفة فيقول عنها إننا تخيلنا أننا نستطيع أن نلحق بالعالم عبر حقول البترول ونسينا أن هناك مواصفات مؤكدة للتقدم والسبق والانتصار, ورأس الحرية كلمة واحدة هي المعرفة, والمعركة بيننا وبين العدو ليست معركة عسكرية, وهدفها النهائي ليس الهزيمة العسكرية, بل الاستسلام الحضاري.
وفي وصاياه أن الأساس الأول للثقافة الحرية, فهي المادة الأولية لوجود ثقافة ومثقفين, والثقافة بطبيعتها تأبي التعصب والنفاق, وعلينا ألا نخلط بين الثقافة وأدوات التعبير الفني والأدبي, فليس كل صانع لوحة أو ناحت تمثال, أو مؤلف لرواية مثقفا, فالعمل الفني في ذاته قد يندرج تحت التراث الثقافي, ولكن صاحبه قد لايكون مثقفا, فالمثقف لا يتطابق مع الفنان, والفنان قد لايكون علي أي قدر من الثقافة, ولكنه أبدع فنا, وكذلك فليس كل من يتحدث عن الثقافة مثقفا بالضرورة, والمثقف هو من كان في حالة متكاملة من الوعي وادراك المجتمع وهذا يعطيه أعرض الآفاق في التفكير, ويحميه من التعصب.
أما عن سيادة القانون, فإن وصية الدكتور خليفة, أن نحدد أولا أي قانون تكون له السيادة, لنري إن كان معبرا عن واقع المجتمع ومصالحه, أم أنه قانون خارج السياق, يفرض علي المجتمع, أو لا يعبر عن المصالح الحقيقية في المجتمع, أو يخالف حقوق الإنسان, وبذلك تحظي القاعدة القانونية باحترام الأغلبية الساحقة, وتحقق الضبط الاجتماعي المنشود, فالقانون لايستحق السيادة لمجرد أنه يسمي قانونا, ولكنه يصبح قانونا اذا كان متفقا مع متطلبات المجتمع, وكان مطبقا بروح العدالة ودون تفرقة بين المواطنين تحت أي حجة أو عذر.. واذا فقد القانون شرعيته تحول المجتمع من التماسك الي التحلل, وأطلق العنان للنزعات الفردية الأنانية, وسادت لغة القوة والثروة فوق لغة الحق والعدل, وسد هذه الفجوة ليس سهلا.
والفجوة في قضية حقوق الإنسان ـ كما يراها الدكتور خليفة ـ أن الكثير من القضايا التي يقال إنها قضايا حقوق الإنسان لا تملك من حقوق الإنسان إلا قشرتها, ما أن تنكشف حتي تجد بنيانا كاملا لأغراض ومآرب سياسية, ولذلك يجب أن تكون لدينا القدرة علي النفاذ الي كبد الحقيقة وراء دعوات حقوق الإنسان.. فإن الدعوة الي احترام حقوق الإنسان أمل لتخليص الإنسان من القهر والعدوان والاستغلال والعنف والإرهاب, واحتقار القانون, ويساعده علي بناء حياة اجتماعية أنظف, واقتصاد أقوي.
وكانت الوصية الأخيرة للدكتور خليفة, هي نفض التواكل, ورفض التنطع والتعصب, وإدراك أن الكون مبني علي الحركة وليس في الكون شيء ساكن.. ومن لايتحرك يموت..!