محاكمة القرن

من أهم القرارات التي اتخذتها القمة العربية الأخيرة قرار الدول العربية ملاحقة المسئولين عن الجرائم الوحشية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الاسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين‏,‏ والنص في هذا القرار علي أن تكون هذه المحاكمة وفقا للقانون الدولي‏,‏ ومطالبة مجلس الأمن بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة الذين ارتكبوا المجازر ضد الفلسطينيين علي غرار المحكمتين اللتين شكلهما المجلس لمحاكمة مجرمي الحرب في رواندا ويوجوسلافيا السابقة‏,‏ واتفاق الدول العربية في هذه القمة علي أن تكون هذه المحاكمات وفقا لأحكام النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية‏.‏

وهذا القرار يحتاج إلي آلية لتنفيذه‏,‏ إما بتشكيل لجنة خاصة من الدول العربي في اطار الجامعة العربية وإما بتكليف مجموعة خبراء القانون الدولي العربية والدبلوماسيين لاعداد قوائم وأدلة الاتهام وتحديد أشخاص المتهمين واتخاذ الاجراءات التنفيذية لتشكيل هذه المحكمة‏,‏ ويمكن الاستعانة بعدد من كبار المحامين والقانونيين الدوليين ممن لديهم استعداد للدفاع عن الحق والعدل‏,‏ ولا يخضعون للتهديد والابتزاز من جانب اسرائيل والمنظمات الصهيونية‏.‏ وبعد وجود سابقة لهذه المحاكمات لمجرمي الحرب‏,‏ ووجود مباديء وأسس للقانون الجنائي الدولي‏,‏ والقانون الدولي الانساني باعتبار ما قامت وتقوم به سلطات الاحتلال الاسرائيلي جرائم ضد الانسانية‏,‏ وعدوانا صريحا حتي علي قانون الحرب اذا اعتبرت انها في حالة حرب مع الفلسطينيين‏,‏ وهذه الجرائم تتمثل في القتل العشروائي والابادة الجماعية لشعب أعزل تحت الاحتلال العسكري يطالب بتحرير أرضه وليست لديه أسلحة‏,‏ سوي التعبير عن الغضب والرفض بالقاء الحجارة علي المعتدين‏,‏ ووفقا لاتفاقيات جنيف فان المواطنين المدنيين والمحاربين أيضا يجب أن تكون لديهم حماية تتمثل في قوانين الإنسانية‏,‏ والضمير الانساني‏,‏ وتقاليد الأمم المتحضرة‏,‏ ولسنا في حاجة الي جهد كبير لاثبات وحشية الاعتداءات الاسرائيلية التي وصلت الي القتل العمد للأطفال حتي وصل عدد الشهداء أكثر من‏170‏ شهيدا حتي الآن‏,‏ ويتزايد العدد كل يوم‏,‏ ويهدد رئيس الوزراء الاسرائيلي علنا باستمرار عمليات القتل‏,‏ دون اعتبار لميثاق الأمم المتحدة‏,‏ أو الوثائق القانونية الدولية التي تعطي للمدنيين وللشعوب الواقعة تحت الاحتلال العسكري حماية خاصة‏.‏


ولابد ان يوازي التحرك العربي لمحاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين جهد آخر علي المستوي السياسي والدبلوماسي والاعلامي‏,‏ بتشكيل لجنة عربية أو عدة لجان للاتصال بالقادة السياسيين‏,‏ وبالمنظمات والهيئات الدولية‏,‏ والمنظمات المدافعة عن حقوق الانسان‏,‏ وبوسائل الاعلام في الدول المؤثرة في قرارات مجلس الأمن‏,‏ واعداد كتاب أسود يشمل حصرا للجرائم وأسماء الضحايا وصورهم وصور الانتفاضة بالفيديو في جميع مراحلها ليري العالم بالصوت والصورة ان اطفال وشباب الانتفاضة لم تكن في أيديهم أسلحة‏,‏ ولم يكن لديهم للتعبير عن ارادة الحرية والدفاع عن الوطن سوي الحجارة‏,‏ بينما كانت القوات الاسرائيلية تستخدم الرصاص الحي‏,‏ والمصفحات‏,‏ والدبابات‏,‏ والصواريخ‏,‏ والطائرات الهليوكبتر‏,.‏ وتقتل المدنيين العزل حتي وهم متجهون الي بيوتهم أو الي السوق كما حدث مع الطفل الشهيد محمد الدرة ووالده وعشرات من أمثالهما‏.‏

واسرائيل من جانبها هي التي قدمت للعالم القدوة والنموذج لملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الانسانية‏,‏ وبالضغط علي الدول الأوروبية التي شاركت في تعذيب اليهود والحصول علي تعويضات مالية بلغت مليارات الدولارات‏,‏ وبالمطالبة باعتذار رسمي من هذه الدول عن الجرائم التي ارتكبت فيها في زمن ماض‏,‏ كما قامت المنظمات الصهيونية بتشكيل فرق لملاحقة الأفراد الهاربين الذين كان لهم دور في تعذيب اليهود‏,‏ واختطافهم وترحيلهم الي اسرائيل للانتقام منهم أو بقتلهم بالرغم من أن ما بقي منهم أصبح شيخا طاعنا في السن لا يقوي علي الحركة‏,‏ وقد أعدت المنظمات الصهيونية منذ سنوات ملفات كاملة لكل واحد من هؤلاء‏,‏ وتتم ملاحقتهم مهما تخفوا حتي إن بعضهم غير ملامحه واسمه وبلده وعاش في مناطق نائية في أمريكا اللاتينية وأحراش آسيا‏,‏ ومع ذلك تم اصطيادهم بمعرفة فرق يسمونها صيادو النازي‏.‏

ولا أحد يدعو الي استخدام وسيلة الاغتيال الاسرائيلية‏,‏ لانها وسيلة تناسب طبيعة الارهاب الصهيوني‏,‏ ولكن الجميع يدعون الي تقديم مجرمي الحرب الاسرائيليين الي محكمة تحاكمهم بالعدل علي جرائمهم وفقا للقانون‏,‏ حتي لا تصبح اسرائيل الدولة الوحيدة في العالم المسموح لها بممارسة شريعة الغاب‏.‏


وعلي سبيل المثال فان شارون وعددا من القادة العسكريين الاسرائيليين سبقت إدانتهم رسميا لمسئوليتهم عن مذابح صابرا وشاتيلا في تقرير اللجنة القضائية الاسرائيلية المشهورة التي شكلت لبحث الجرائم التي ارتكبت في حق الفلسطينيين في صابرا وشاتيلا‏-‏ وأكثر من ذلك أن شارون سفاح صابر وشاتيلا احتج في عقب هذه المذابح علي مجلة تايم الأمريكية ورفع دعوي أمام محكمة مانهاتن في نيويورك وطلب تعويضا قدره‏50‏ مليون دولار‏,‏ وقال إن المجلة اساءت الي سمعته السياسية والعسكرية وشوهت صورة اسرائيل‏,‏ وقال انه أقام هذه الدعوي للدفاع عن سمعة الشعب اليهودي كله‏,‏ وليس دفاعا عن سمعته وحده‏,‏ وكانت مجلة تايم قد نشرت معلومات لمراسلها في تل أبيب عن الدور الرئيسي الذي قام به شارون في مذبحة صابرا وشاتيلا‏,‏ وكان شارون قد استقال وقتها من منصبه الوزاري‏,‏ عقب انتهاء لجنة التحقيق القضائية وتقديمها تقريرها المشهور باسم تقرير لجنة كاهان‏,‏ وحين طلب محامي تايم من المخابرات المركزية الأمريكية تقديم الوثائق الأمريكية عن المذبحة لجأت المخابرات الأمريكية ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الي المحاكم لمنع محكمة مانهاتن من الحصول علي هذه الوثائق‏,‏ وقدم محامي تايم نسخة من صحيفة عال همشمار الاسرائيلية وفيها تعليق يقول صراحة ان شارون مجرم حرب‏,‏ انه رجل يضع أفعي في فراش طفل ويقول لقد اخبرت الأفعي ألا تقتل‏..‏ وهذا بالضبط ما حدث في صابرا وشاتيلا‏.‏ وفي النهاية رفضت المحكمة دعوي شارون‏.‏

هذه الواقعة أذكرها لتكون مثالا ودليلا علي أن مجرمي الحرب في اسرائيل كثيرون والأدلة علي جرائمهم متوافرة سواء في الولايات المتحدة أو في اسرائيل ذاتها‏,‏ فضلا عن توافرها لدي الفلسطينيين والدول العربية عموما‏,‏ وبالاضافة الي ذلك فان جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم‏,‏ وبالتالي يمكن تقديم قائمة طويلة من الجرائم والمجرمين علي امتداد الصراع العربي ـ الاسرائيلي منذ بدايته في العشرنيات حتي انتفاضة الاقصي عام‏2000‏ لتكون المحاكمة أكبر محاكمة في التاريخ لمجرمي حرب‏,‏ لان الجرائم التي ارتكبوها ليس لها مثيل في تاريخ جرائم الحرب الحديث‏.‏ ولابد ان تكون هذه المحاكمة فرصة لكشف الحقائق بالتفصيل أمام الرأي العام العالمي‏.‏


وبعد انتهاء القضية التي رفعها شارون كتب رئيس تحرير مجلة تايم يقول ان الهدف الحقيقي لهذه القضية كان ارهاب الصحافة الامريكية والأوروبية‏,‏ لكي تشعر بالخوف وتتردد من اليوم في ذكر الحقائق التي تمس ملوك الارهاب الصهيوني‏,‏ لكي تخلو لهم الساحة ويفعلوا ما يشاءون دون خشية من رقابة الصحافة التي يفترض ان تكون صوتا للحق وللضمير الانساني‏.‏ ويكفي ان تايم قدمت في المحكمة وثائق عما فعله شارون في قرية قيبة علي الحدود الأردنية ـ الفلسطينية حيث أمر بقتل عشرات النساء والأطفال ولم يجد شارون من ينفي به عن نفسه الاتهام وقال انه فعل ذلك لانه كان يطارد الفدائيين الفلسطينيين‏,‏ وقال إن جنوده دمروا القرية دون أوامر منه‏,‏ وقدم محامي تايم ما يثبت ان شارون أمر في اليوم التالي بقتل المدنيين الفلسطينيين‏,‏ فوصل عدد الشهداء إلي ما بين‏700‏ و‏800‏ من المدنيين‏,‏ وقال محامي تايم في المحكمة ان شارون لا يحتاج الي مقال صحفي ليشوه سمعته‏,‏ لان سمعته سيئة فعلا قبل المقال‏,‏ ومعروف أنه دموي‏,‏ متعطش للقتل‏,‏ ومتمرد عسكريا‏,‏ وخارج علي القانون وعلي العرف الدولي‏..‏ وملف هذه القضية موجود‏,‏ ويمكن الحصول عليه بسهولة وتقديمه للمحاكمة الجنائية لمجرمي الحرب مع عشرات آخرين من القادة العسكريين والسياسيين الاسرائيليين‏..‏

والأمر يحتاج الي تضافر جهود الخبراء والباحثين والمؤسسات والمنظمات القانونية العربية ومراكز البحوث لمساندة الجهود الحكومية ـ للبدء في اعداد الوثائق والملفات وأدلة الاتهام‏-‏ وما أكثرها‏-‏ لتكون محاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين هي محاكمة القرن الحادي والعشرين‏,‏ ولتكون أيضا بداية يقظة عربية للدفاع عن الحقوق والدماء العربية دون تفريط أو تهاون‏..‏ ولتكون هذه المحاكمة تعبيرا عن عودة القانون والعدالة بعد غياب طويل‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف