ما بعد القمة أهم

شيء واحد لا يختلف عليه العقلاء‏,‏ وهو أن لقاء قادة الدول العربية في حد ذاته‏,‏ أمر يستحق الترحيب والتقدير‏,‏ سواء كان لقاؤهم في قمة طارئة أو قمة عادية‏,‏ وسواء اتفقوا بالإجماع أو بالأغلبية‏,‏ أو اختلفوا‏,‏ فإن مجرد الحرص علي الحوار‏,‏ وتبادل الآراء‏,‏ وتوضيح المواقف من زاوية الرؤية والمصلحة لكل قائد‏,‏ وكل بلد عربي‏..‏ مجرد الوجود العربي تحت سقف واحد‏,‏ هو في ذاته عمل إيجابي‏.‏


مجرد لقاء القادة العرب بعد أن نجح أعداؤهم في شق الصفوف‏,‏ وإثارة الخلافات العربية ـ العربية‏,‏ يعني انتهاء مرحلة الشكوك والخلافات والخصام المتبادل‏,‏ ويمهد الطريق لخطوة أخري نحو تحسين العلاقات‏,‏ وحل موضوعات الخلافات‏,‏ وزيادة حجم العلاقات العربية ـ العربية‏,‏ بعد أن وصلت الأمور الي درجة أن العلاقات السياسية والتجارية بين بعض الدول العربية وإسرائيل‏,‏ أصبحت أكثر اتساعا من علاقات هذه الدول بالدول العربية الشقيقة‏,‏ وحتي الحديث عما يجمع بين العرب اختفي من ألسنة بعض القادة العرب‏,‏ وأجهزة إعلامهم‏,‏ ولم يعد يملأ الساحة إلا الحديث عن الخلافات وتبادل الاتهامات ومحاولات إحراج الغير‏,‏ والتنصل من المسئولية في لحظة الجد بحجج واهية‏.‏


وكان شيئا لايمكن فهمه‏,‏ أن يلتقي القادة العرب مع كل قادة دول العالم دون استثناء‏,‏ ولا يلتقي القادة العرب معا‏,‏ ويشاركوا في كل المنظمات الدولية ويهملوا المنظمة الإقليمية التي تمثل رمز وحدتهم وسياج الحماية لهم وقت الخطر‏,‏ وهي الجامعة العربية‏,‏ ويتابعوا نمو التجمعات والتكتلات الاقتصادية الدولية وما تحققه لأصحابها من فوائد اقتصادية وسياسية‏,‏ ويتحدثون كثيرا عن الروح العربية‏,‏ وعن التضامن‏,‏ ووحدة الصف‏,‏ وبعضهم يزايد ويتحدث عن استعداده للتخلي عن موقعه لتوحيد بلده فورا‏,‏ مع أي بلد آخر‏,‏ وكل هذا الكلام في ناحية‏,‏ والأفعال في ناحية أخري‏,‏ علي النقيض‏,‏ واذا كان مفهوم الإيمان كما حدده الرسول صلي الله عليه وسلم هو ما وقر في القلب وصدقه العمل‏,‏ فإن الإيمان بوحدة الصف العربي لم يتجاوز اللسان عند البعض‏,‏ ولم يصل الي القلب أو الي العمل‏.‏


من هنا‏,‏ يشعر الرأي العام العربي‏,‏ أن هذا اللقاء العربي خطوة مهمة وبداية علي الطريق الصحيح‏,‏ خاصة أن الخطر اشتعل ووصل الي المقدسات‏,‏ والأرواح‏,‏ والي الأرض‏,‏ والي المصير‏,‏ مصير الشعب الفلسطيني اليوم‏,‏ ومصير كل الشعوب العربية‏,‏ واحدا بعد الآخر‏,‏ غدا وبعد غد‏,‏ وعندما خرجت الجماهير العربية تعبر عن رفضها لحالة التمزق والضعف الحالية‏,‏ كانت تطالب زعماءها أن يفعلوا شيئا‏,‏ واذا كان زعيم واحد وبلد عربي واحد ـ مهما تكن قوتها ـ لايمكن أن يقوما وحدهما بكل ما هو مطلوب في هذه المرحلة‏,‏ فإن يدا علي يد تساعد‏,‏ اذا كانت الأيدي تريد البناء وتعبر عن دوافع مخلصة وجادة‏.‏


وليس خافيا أن مجرد اللقاء لزعماء العرب‏,‏ ليس موضع ترحيب من قوي ودوائر معروفة‏,‏ وضعت استراتيجياتها علي أساس تعميق الخلافات العربية‏,‏ وتحويل العالم العربي الي مجموعة شظايا متناثرة‏,‏ لذلك فإن هذا اللقاء‏,‏ والاتفاق علي قمة دورية ليس شيئا هينا‏,‏ وسوف يجد العقبات‏,‏ وسوف يقفز هنا أو هناك من سيعمل علي إفساد هذه اللقاءات وفقا للاستراتيجيات المعارضة‏.‏


ولحسن الحظ‏,‏ لم يغب عن الزعماء العرب هذه المخاطر‏,‏ وأيضا لم يغب عنهم أن الخطر الذي يتهدد الحرم الشريف والقدس والشعب الفلسطيني‏,‏ ليس هو كل الخطر‏,‏ ولكنه البداية‏,‏ أؤ المقدمة‏,‏ وأن الصراع أكبر وأعمق مما يحاول البعض تصويره تبسيطا للأمور‏,‏ وتضليلا للعقول‏,‏ فإسرائيل دولة دينية عنصرية أولا‏,‏ وهي دولة قائمة علي العدوان‏,‏ واذا تخلت عن العدوان فإنها تتخلي عن طبيعتها وتتحول الي مجرد دولة صغيرة لا تستمد الحياة إلا من الولايات المتحدة‏,‏ وهي دولة توسعية بدأت بمجرد طلب وطن لليهود‏,‏ وأعلنت أن قرار التقسيم هو منتهي غايتها‏,‏ وهي الآن تتحدث عن ابتلاع القدس ومعظم الضفة وأجزاء من غزة وترفض إعادة‏22%‏ فقط من فلسطين للفلسطينيين‏,‏ وهي التي كانت تطالب بحق اليهود المشردين في كل أنحاء العالم في أن يتجمعوا لإقامة دولة ترفض الآن إقامة دولة لأصحاب الأرض المقيمين الذين لايعرفون لهم أرضا أخري غيرها في أي مكان في العالم‏..‏ باختصار أطماع إسرائيل لا حد لها‏,‏ وما يظهر منها إنما يظهر مرحلة بعد أخري‏,‏ وكل أرض تستولي عليها تجعلها تتقدم الي مابعدها‏,‏ ولن تتوقف‏.‏


ومعني ذلك أن الانتفاضة وانقاذ الشعب الفلسطيني والحرم الشريف والقدس‏,‏ هي المسألة العاجلة التي لا تحتمل التأجيل‏,‏ ودور العرب فيها أقرب الي دور رجل المطافيء‏..‏ مجرد إطفاء حريق ومنع امتداده أكثر وأكثر ويبقي البحث عن أسباب الحريق‏,‏ واحتمالات اندلاعه مرة أخري غدا وبعد غد‏,‏ بعد أن أعلن باراك أن عملية السلام انتهت‏,‏ وأعلن كبير حاخامات إسرائيل أن العرب خنازير يجب قتلهم‏,‏ وأعلنت جماعة بناة الهيكل عن حصولها علي ترخيص ببناء الهيكل ملاصقا للحرم‏.‏


ومن حسن الحظ أن القادة العرب تجاوبوا مع نداءات الشعوب‏,‏ واتخذوا قرارات سوف يكون لها تأثيرها علي مجريات الأحداث‏,‏ وسوف تثبت الأيام أن ما قيل من أن‏99%‏ من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط في يد أمريكا‏,‏ لم يفهم علي النحو الصحيح‏,‏ لأن هذه الحقيقة تحتاج الي فهم وخبرة من نوع خاص لفهمها‏..‏ فأوراق اللعبة في يد أمريكا بحكم علاقتها الاستراتيجية بإسرائيل‏,‏ وباعتبار المصدر الرئيسي لتدفق الأموال والأسلحة اليها‏,‏ ومصدر الدعم السياسي غير المحدود لها‏,‏ وهي في نفس الوقت لها مصالح حيوية ولها صداقات في العالم العربي‏,‏ فهي تستطيع حماية العرب كما تقوم بحماية إسرائيل‏,‏ وتستطيع العمل لإقرار العدل أولا‏,‏ لكي يقوم عليه السلام ثانيا‏,‏ وتستطيع أن تنفذ استراتيجية جديدة قائمة علي حق كل الدول والشعوب في المنطقة في العيش والسلام والأمن‏,‏ ولا تكون هذه الحقوق لدولة وحيدة وتحرم منها الدول العربية‏.‏


تستطيع أمريكا وهي تقود النظام العالمي الجديد‏,‏ وتعيد ترتيب أوضاع العالم‏,‏ أن تساعد علي إعادة ترتيب أوضاع الشرق الأوسط علي أساس العدل‏,‏ وتستطيع أيضا أن تترك إسرائيل تقتل شعب فلسطين كما تركت الصرب يقتلون المسلمين في يوجوسلافيا‏,‏ ولا تتدخل إلا بعد أن ينتهي كل شيء‏..‏ والعرب في أيديهم أوراق‏,‏ ومن يتصور أن العرب في موقف ضعف‏,‏ وليست لديهم أسلحة أو أوراق‏,‏ إما أن يكون جاهلا بحقائق وموازين القوي‏,‏ وإما أن يكون واقعا تحت تأثير الدعايات المسمومة وعمليات غسيل المخ التي تقوم بها بعض الفضائيات العميلة‏..‏ فالحقيقة أن العرب في أيديهم أوراق‏,‏ ولكن هذه الأوراق ليست في يد دولة واحدة‏,‏ ولكنها في يد كل الدول العربية‏,‏ ولو ترك العرب دولة واحدة أو شعبا واحدا في الساحة ليواجه الخطر الماثل والأخطار المحتملة‏,‏ فإن هذا يعني أنهم قرروا الانتحار واحدا‏..‏ واحدا‏.‏


خلاصة القضية هي العودة الي الحقيقة البسيطة التي يتعلمها تلاميذ المدارس‏,‏ إن تجمع أصحاب الحق معا يولد قوة تفوق حاصل جمع قوة كل منهم‏,‏ قوة إضافية تفوق الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل‏,‏ والأمثلة كثيرة‏..‏ تجمع أطفال الانتفاضة بسلاح الحجارة‏,‏ وتجمع العرب في أكتوبر‏73,‏ وتجمع القوة العربية وراء صلاح الدين‏,‏ وتجمع قوة القبائل المتناثرة وراء الرسول صلي الله عليه وسلم‏.‏


لذلك أدركت الشعوب أن هذه القمة في ذاتها هي الخطوة الصحيحة‏,‏ ولابد سيكون لها مابعدها‏,‏ والشعوب تترقب وتنتظر مابعد القمة‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف