خطأ الحسابات الإسرائيلية

لماذا فجرت إسرائيل الموقف في أراضي السلطة الفلسطينية‏,‏ وصلت به الي حد الحصار العسكري‏,‏ واستخدام الدبابات والطائرات والصواريخ وانتشار القوات في الشوارع لاطلاق الرصاص عشوائيا علي المدنيين دون استثناء الاطفال أو الشيوخ أو النساء‏..‏؟

وكيف يمكن أن تحدث هذه المذبحة في الوقت الذي كانت فيه الوفود الفلسطينية والاسرائيلية والأمريكية في واشنطن تبحث عن حل للأزمة التي اختلقتها حكومة باراك حول المسجد الأقصي‏,‏ وكانت هذه الاجتماعات تمهد للقاء قمة جديدة في كامب ديفيد يحضرها كلينتون وباراك وعرفات‏.‏

وهل كانت الشرارة الأولي لهذه الحرب مجرد مصادفة أو جاءت بغير ترتيب‏,‏ وكانت الشرارة الأولي هي اقتحام السفاح الاسرائيلي الكبير شارون الحرم القدسي في مظاهرة استفزازية مقصودة‏,‏ ولم يكن خافيا ان هدفها الحقيقي اشعال النار في قلوب الفلسطينيين‏,‏ واستثارة مشاعرهم الدينية‏,‏ وتحويل الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي من صراع سياسي علي الأرض الي صراع ديني علي المقدسات‏,‏ وهذا هو أخطر أنواع الصراعات الذي يتعمق ويستمر ويتحول الي حمامات دم مستمرة‏,‏ والأمثلة لا حصر لها في الماضي والحاضر‏..‏


وهل قام شارون بهذه الخطوة الخطيرة الحمقاد وحده ودون تشاور مع باراك أم انها تمت بالتنسيق بين الطرفين برغم ما بينهما من خلافات ومنافسة علي الحكم‏,‏ باعتبار ان هذه الزيارة تخدم مصالح اسرائيل وتحقق هدفا مشتركا لشارون وباراك علي السواء‏.‏

من جانب شارون كانت لديه دوافع شخصية تتعلق بسعيه الي الاحتفاظ بزعامة الليكود‏,‏ واحراج حكومة باراك‏,‏ وكان نيتانياهو قد خرج لتوه من الأزمة التي كانت تكبله في قضية الفساد التي اتهم فيها‏,‏ وعاد الي الأضواء وبدأ الحديث عن احتمال ان ينتزع زعامه الليكود من شارون علي أساس أنه الممثل الشرعي لتيار التعصب والارهاب في اسرائيل الرافض للسلام ومازال يعيش علي أساطير اسرائيل الكبري وهدم الاقصي واعادة بناء الهيكل‏..‏ الي آخره هذه الأساطير المعرفة‏..‏ وأراد شارون أن يقوم بحركة مسرحية استعراضية يثبت فيها أنه أشد عداوة للعرب والمسلمين من نيتانياهو وباراك والجميع‏..‏ وانه هو الأقوي والأقدر علي تحدي الجميع‏..‏ وبذلك يزايد علي نيتانياهو وباراك وترتفع اسهمه باليمين والجماعات المتطرفة‏.‏

ورغم ذلك هناك نقطة اتفاق بين شارون وباراك‏,‏ وهي أن كليهما وصل الي مرحلة يريد فيها أن يقلب مائدة المفاوضات‏,‏ ويثير زوبعة كبري تشغل كل الأطراف‏,‏ وتحول الأرض الي جحيم‏,‏ وتحول الجهود الأمريكية والعربية والفرنسية من موضوعات السلام والتسوية والاعتراف بالحقوق‏,‏ الي موضوع واحد هو البحث عن وسيلة لوقف عمليات القتل العشوائية وانقاذ الفلسطينيين من هذه المذبحة الجديدة‏.‏ وقد نجح كلاهما في ذلك بدليل ان الولايات المتحدة لا تتحدث الآن عن استمرار عملية السلام‏,‏ أو عن مصير الحرم القدسي الشريف‏,‏ أو عن الحدود أو المستوطنات‏,‏ ولكنها تتحدث عن شيء واحد هو وقف الحرب الاسرائيلية الجديدة التي تقول عنها الولايات المتحدة وقف العنف وتطالب الفلسطينيين بوقف العنف‏,‏ وكل العنف الفلسطيني يتمثل في القاء الحجارة‏,‏ والقيام بالمظاهرات‏,,‏ بينما العنف الاسرائيلي يتمثل في اطلاق الرصاص الحي والقنابل والصواريخ واعتقال مئات الفلسطينيين‏.‏


والهدف المشترك لشارون وباراك تجلي في التنسيق والاعداد لاقتحام شارون للحرم القدسي وقامت الحكومة الاسرائيلية بارسال ثلاثة آلاف جندي وضابط بكل الأسلحة لمصاحبة شارون ومن معه في اقتحام الحرم الشريف‏..‏ لذلك لا تنطلي علي أحد مقولة أن شارون قام بهذا العمل دون علم باراك‏,‏ أو بالرغم منه‏,‏ وهذا تكتيك اسرائيلي معروف‏..‏ كلما وصلت مباحثات السلام إلي نقطة تجد اسرائيل نفسها فيها مضطرة الي التسليم ببعض الحقوق العربية تفتعل أزمة‏..‏ إما بافتعال معارك وقتال وإما بإسقاط االحكومة وإجراء انتخابات مبكرة‏,‏ لكي يعود الجميع إلي نقطة البداية وتنقضي السنوات والأوضاع كلها مجمدة‏.‏

في هذه المرة وصلت المفاوضات الي نقطة حساسة‏,‏ بل شديدة الحساسية‏.‏ حتي أن اولبرايت قالت‏:‏ هذه لحظة مواجهة الحقيقة‏..‏ والحقيقة التي اكتشفتها اسرائيل وأمريكا هي الحقيقة التي سبق أن نبه اليها الرئيس مبارك منذ سنوات‏,‏ وهي أن القدس والحرم مسألة حساسة‏,‏ وخطيرة‏,‏ ويمكن ان تفجر المنطقة كلها وقد لا يستطيع أحد السيطرة علي الأمور بعد ذلك‏,‏ بل ويمكن أن تؤثر علي الأمن والسلام العالميين‏..‏ لانها ليست قضية الفلسطينيين‏,‏ ولا العرب‏,‏ ولكنها قضية ألف مليون مسلم‏,‏ وليس من العقل جرح مشاعرهم الدينية والمساس بمقدساتهم والاستهانة بعقائدهم‏..‏

لذلك رأي البعض أن غزو شارون للحرم القدسي تكرار لواقعة الفيل حين ذهب أبرهة وجنده المدججين بأقوي أسلحة ذلك العصر لهدم الكعبة‏,‏ ولم يكن للعرب سابق معرفة بكيفية مواجهة الأفيال في ساحة قتال وهم لا يملكون إلا النبال والرماح والسيوف‏..‏ وأرسل الله اليهم طيرا أبابيل جعلتهم كعصف مأكول‏..‏ بذلك أصبحت القضية قضية دينية وهذا النوع من القضايا يستحيل التعامل معها بالقوة مهما بلغت لأن الموت مشروع ومبرر بل يرحب به الجميع‏..‏


وما يؤكد أن هدف المذبحة هو تخريب عملية السلام أن باراك لم يحضر اجتماع شرم الشيخ لأنه كان يعلم ان الحديث لن يقتصر علي ايقاف المذبحة ولكن سيمتد الي كيفية استئناف عملية السلام من حيث توقفت والعودة الي كامب ديفيد‏,‏ وان كان البعض رأي أن باراك لم يحضر لأن الاجتماع جاء في وقت احتفال مصر بنصر أكتوبر‏,‏ ولم يستطع ان يجلس في سيناء تحت العلم المصري في هذه المناسبة‏..!‏ واعتقد ان مذبحة الأقصي حققت أهدافها مرحليا‏:‏ عطلت عملية السلام واختلقت أزمة جديدة تحتاج الي وقت وجهد تنشغل فيه الأطراف الي أن يأتي وقت انشغال الادارة الأمريكية بانتخابات الرئاسة‏,‏ ويشتد احتياج الرئيس كلينتون الي دعم اللوبي اليهودي في أمريكا لزوجته هيلاري في معركتها في نيويورك للفوز بمقعد في مجلس الشيوخ‏,‏ ودعم آل جور في معركة الرئاسة‏..‏ وكسب شارون وباراك تأييد المتطرفين وجماعات الارهاب الاسرائيلية‏..‏ وتحقق الضغط علي الشعب والسلطة الفلسطينية الي حد الاذلال لكي يفقدوا الأمل في الحصول علي أي شيء‏,‏ فيقبلوا ما تريده اسرائيل‏..‏ إما هذا وإما الموت‏..!!‏

هكذا يعمل الارهاب الاسرائيلي لتحقيق الأهداف الصهيونية‏..‏ ارهاب الدولة‏..‏ وارهاب زعماء العصابات الذين أصبحوا قادة سياسيين‏.‏ وسوف تثبت الأيام خطأ الحسابات الاسرائيلية علي المدي الطويل لانها نوع من اللعب بالنار‏.‏

كل ذلك يحدث علي الجانب الاسرائيلي‏..‏ فماذا علي الجانب العربي‏..‏ لقد تحرك الجمود العربي‏..‏ ومصر تبذل كل جهودها لوقف نزيف الدم والعودة الي مفاوضات السلام‏..‏ وتدعو الي قمة عربية‏..‏ وتجد استجابة‏..‏ وهذا هو الموقف الصحيح‏,‏ لان اسرائيل تراهن علي ان حالة التمزق العربي حالة دائمة ومزمنة‏,‏ وحين تتوحد كلمة العرب سيتغير الموقف‏.‏ هذا هو السلاح الذي يملكه العرب‏,‏ وهو سلاح أثبتت حرب أكتوبر أنه سلاح فعال جدا‏.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف