السلام الأمريكى
بعد لقاء كلينتون وعرفات علي هامش اجتماعات قمة الألفية في نيويورك جاءت تصريحات متشائمة من مساعدي الرئيس الأمريكي, لأن عرفات لم يستجب للمقترحات الأمريكية الإسرائيلية وأعلن باراك عقب لقائه مع كلينتون أن إسرائيل لن تقدم تنازلات عن مواقفها, وأن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل.
بذلك اصبح عرفات تحت الحصار.. ضغوط الأدارة الأمريكية عليه وتهديداتها له بعزلة وقطع المعونات عن السلطة الفلسطينية.. وضغوط الاحتلال الإسرائيلي بالحصار والاعتقال وحرمان الفلسطينيين من التنقل والعمل, بالاضافة إلي الضغوط السياسية والحرب النفسية, وضغوط أخري ليست أقل وطأة عليه من الشعب الفلسطيني نفسه الذي ضاق باستمرار الأوضاع الهينة التي يعيش فيها اقتصاديا وسياسيا ونفسيا واصبح علي وشك الانفجار.
كلينتون حذر عرفات من إعلان الدولة دون موافقة إسرائيل, وانذره بانه إذا اعلن قيام الدولة فسيكون ذلك بمثابة انسحاب من عملية السلام وسيكون ذلك خطأ فادحا سوف يتحمل نتائجه!
ومستشار الأمن القومي ساندي بيرجر قال لعرفات إن عليه أن يقرر أما قبول الاتفاق المعروض عليه أو المواجهة..!
ووزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت كررت القول لعرفات بأن عليه أن يقبل باتخاذ قرارات صعبة, وأن يظهر المرونة, وأن يقبل تقديم مزيد من التنازلات.. وفي نفس الوقت لم يطلب احد في الادارة الأمريكية من الحكومة الإسرائيلية أن تقدم تنازلات رغم أن مطالبة من يغتصب ارض الغير بإعادة هذه الأرض إلي اصحابها لا يعتبر تنازلا..!
والحق الفلسطيني ليس وحده في الساحة.. والانحياز الأمريكي للأطماع الإسرائيلية لن يكون وحده الحاكم والحاسم.. هناك قوي لها تأثيرها وثقلها تقف مع الحق والعدل.. ففي زيارة الرئيس مبارك الأخيرة لفرنسا أعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك اتفاق موقفه مع الموقف المصري في تأييد حقوق الفلسطينيين, ووعد باجراء اتصالات مع دول المجموعة الأوروبية, وقد اصدر المجلس الأوروبي بيانا في مارس من العام الماضي أعلن فيه تأكيد الحق المطلق للفلسطينيين في تقرير مصيرهم واقامة دولتهم المستقلة, واستعداد الدول الأوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية, كما اكدت دول أوروبا في هذا البيان أن حل مشكلة الشرق الأوسط يجب أن يكون وفقا لمبدأ الأرض مقابل السلام, وضمان الأمن للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني, وطالب الاتحاد الأوروبي الاطراف بعدم القيام باي عمل يؤثر في نتيجة مفاضات الوضع النهائي, وعن كل تصرف يخالف القانون الدولي, بما في ذلك بناء المستوطنات, واتخاذ الاجراءات ضد العنف. وجاء في هذا البيان أيضا ان الاتحاد الأوروبي مقتنع بأن اقامة دولة فلسطينية مستقلة ومسالمة وديمقراطية وقادرة علي البقاء هو أفضل ضمان لأمن إسرائيل وللاعتراف بها كشريك علي قدم المساواة في المنطقة.
عرفات ليس وحده اذن.. وهناك قوي مازالت تؤيد عدالة الحق الفلسطيني.. الفاتيكان ايضا له موقف عبر عنه البابا بولس السادس عندما زار مناطق السلطة الفلسطينية, فقد حرص علي ان يقبل التراب الفلسطيني, كما حرص علي الا يصاحبه أي مسئول إسرائيل اثناء زيارته للقدس الشرقية حتي لا تستغل إسرائيل ذلك باظهار قبول الفاتيكان لاحتلالها للقدس الشرقية, وهو احتلال يرفضه الفاتيكان.. وفي كلماته أعلن البابا بولس الثاني استنكاره لما تفعله إسرائيلي في القدس الشرقية من جانب واحد, وكرر القول بان هذه الاجراءات غير شرعية.. واقام البابا قداسا من أجل اقامة دولة فلسطينية, وزار مخيم الدهيشة الذي يعيش فيه12 ألف لاجئ فلسطيني في اوضاع مزرية تتنافي مع ابسط حقوق الانسان, وأعلن اثناء هذه الزيارة في كلمة رسمية: أن حياة الفلسطينيين في المخيمات مهينة, وسنقف إلي جانب اللاجئين الفلسطينيين, واوصيهم بالحرص علي التعليم, قال للاجئين: ارجو أن تحمل زيارتي لكم بعض العزاء علي اوضاعكم الصعبة, لأنكم لم تفقدوا ممتلكاتهم فقط, بل فقدتم حريتكم..! وأشار البابا بولس في احدي كلماته إلي قرار الأمم المتحدة194 الذي يقضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين.. وكرر موقف الفاتيكان الرافض لسيطرة إسرائيل علي القدس الشرقية والمقدسات المسيحية والإسلامية فيها.
وموقف البابا شنودة والكنيسة المصرية معروف وثابت, يرفض السيادة الإسرائيلية علي القدس ويطالب بعودتها كما كانت قبل الاحتلال الإسرائيلي عام1967 للسيادة الفلسطينية.
العقبة الكبري الآن هي الموقف الأمريكي الذي ومن دور الشريك النزيه إلي دور الحليف الاستراتيجي لإسرائيل المنحاز لكل اطماعها إلي درجة التطابق, وهذا الانقلاب أو التنكر الأمريكي هو الذي يجعل التوصل إلي سلام عادل امرا صعبا, لأن امريكا فيما يبدو الآن تريد سلاما غير عادل, ولا تطالب إسرائيل بالتراجع عن أي موقف من مواقف التعنت التي تعلنها في استهانة واستهتار بالحقوق الفلسطينية وبمشاعر المسلمين في العالم وبالشرعية الدولية وقراراتها, وبالقانون الدولي, بل أن امريكا كما يقول البعض جعلت إسرائيل الصغيرة المعتدية دولة كبري بما تغدقه عليها من الأموال والسلاح, وفوق ذلك فإنها تملك حق الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن لمنع صور أي قرار بادانتها علي اعتداءاتها واغتصابها للأراضي, وممارسات القمع اللاانسانية ضد الفلسطينيين, التي تشمل الاعتقال لمدد غير محددة ودون اعلان اسباب, إلي ممارسة التعذيب في السجون, إلي اطلاق الرصاص علي المدنيين دون تمييز.. كل ذلك والفلسطينيون حتي هذه اللحظة يتمنون اقامة علاقات مع أمريكا فيها بعض الانصاف وبعض العدل وبعض التوازن, ولا يطالبون بمعاملتهم بالمساواة مع إسرائيل, ولا تجد الولايات المتحدة حرجا وهي الآن قيادة النظام العالمي الجديد, في أن تعلن انها حامية حمي حقوق الإنسان والديمقراطية في كل دول العالم ولها بذلك الحق في التدخل في الشئون الداخلية للدول, وانتهاك مبدأ السيادة, ومع ذلك فهي تقف بالصمت امام انتهاك إسرائيل لهذه المبادئ, وأمام ممارساتها غير الاخلاقية وغير الشرعية.. ولا يصدر عن الادارة الأمريكية كلمة ادانة, او قرار بالتدخل, أو حتي اعلان بالاستنكار.
والولايات المتحدة التي قادت قوات التحالف في حرب عسكرية ضد العراق دفاعا عن مبدأ عدم جواز الاستيلاء علي أراضي الغير بالقوة ترفض االآن مجرد إدانة استيلاء اسرائيل علي أرض الغير بالقوة, وحين يبدي العرب استياءهم من ازدواجية المعايير الأمريكية, يعلن الأمريكيون أن العرب هم المخطئون لأنهم لا يمارسون الضغط علي عرفات وعلي الفلسطينيين لقبول ما تريده إسرائيل..!
وكل التنازلات التي قدمها عرفات والفلسطينيون لا تذكرها الادارة الأمريكية اليوم.. تخلي منظمة التحرير عن العمل العسكري ضد الاحتلال الإسرائيلي.. اعتراف المنظمة بالقرار242 بعد ان وعدت امريكا بان يكون هذا الاعتراف بوابة الحل العادل للقضية الفلسطينية.. اعتراف منظمة التحرير بدولة إسرائيل.. تنازل منظمة التحرير عن حقها في ان تكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.. قبول الفلسطينيين اجراء مفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين.. قبول الفلسطينيين للوجود الإسرائيلي في بعض مناطق الضفة.. قيام السلطة الفلسطينية بحماية المستوطنات الإسرائيلية واعتقال من تحوم حوله الشبهات او احتمالات قيامه باعمال عنف ضد الاحتلال الإسرائيلي.. كل هذه التنازلات الفلسطينية تعطي لإسرائيل الأرض, والأمن, والقبول, والاعتراف بالوجود, والحق في التعايش, ولا يقابلها تنازلات من الجانب الإسرائيلي.. ومن الخداع اعتبار اعادة جزء من الأرض الفلسطينية لاصحابها تنازلا.. والموقف الأمريكي يبدو حتي الآن ضد العرب بالفعل ومعهم بالقول, وصداقة امريكا للعرب لا تتعدي حدود الحفاظ علي مصالحها الاستراتيجية في المنطقة دون اعتبار للمصالح العربية.
من هنا يبدو طبيعيا ما تلمسه الولايات المتحدة من الغضب الذي ينمو في الرأي العام العربي, والذي لا يستطيع الحكام التحكم فيه أو السيطرة عليه, ويبدو طبيعيا نمو الشكوك لدي الشعوب العربية من النوايا الأمريكية خاصة مع ما في برامج كل من بوش وآل جور من انحياز كامل لإسرائيل يفوق كل ما كان من قبل.
ويبدو السلام الذي تريده امريكا ليس سلاما عادلا.. وبذلك لن يكون سلاما دائما.. ولن يحقق الاستقرار في المنطقة.. ولن يوفر الأمن لإسرائيل, ولا أظن ان الولايات المتحدة يغيب عنها انه من غير المنطقي أن تكون الأمم المتحدة قادرة في الخليج وعاجزة في فلسطين.. أو يغيب عنها أن العدل والسلام وجهان لعملة واحدة.. فكيف تظن انه من الممكن الحصول علي احدهما دون الآخر؟
وحتي الآن لم يسدل الستار علي الفصل الأخير بعد.. وأعتقد ان الولايات المتحدة سوف تكتشف فيه أن مصالحها ومسئوليتها الدولية والتزامها بالقيم الأمريكية التي تعلن انها الحرية والمساواة وحقوق الانسان.. سوف تكتشف أن الدور الأمريكي يجب ان يكون عادلا ومنصفا وسوف تكتشف أن فوز رئيس في الانتخابات يجب ألا يكون ثمنه تشويه تاريخ أمريكا في وقت اصبحت فيه قائدة العالم.