حرية الصحافة فى أمريكا

في مقال توماس فريدمان المشبوه في نيويورك تايمز بعنوان لعبة مصر سطور مسمومة للغمز والتشكيك في حرية الصحافة في مصر‏,‏ وهذه هي الوسيلة التقليدية للضغط علي مصر كلما وجدت الولايات المتحدة في الصحف المصرية ما لا يرضيها‏.‏

والغريب أن بعض الكتاب والسياسيين في أمريكا يظنون أن حرية الصحافة مقصورة علي الصحافة الأمريكية‏,‏ ولا يريدون أن يصدقوا أن هناك دولا أخري تتمتع فيها الصحافة بمساحة واسعة من الحرية‏,‏ وما ينشر فيها لا يعبر عن سياسة أو توجهات الدولة‏,‏ ولكنها تعبر عن آراء الصحفيين أنفسهم‏,‏ والدليل علي ذلك الاختلافات في رؤية كل كاتب من صحيفة لأخري من الصحف القومية‏,‏ بل وازدياد مساحة النقد في الصحف القومية لكل المسئولين تقريبا‏,‏ بأكثر وأشد قسوة من النقد في صحف المعارضة في كثير من الأحيان‏.‏ وبعض الكتاب الأمريكيين مازالوا يرددون أن الصحافة في مصر تخضع للرقابة‏,‏ وأن ما ينشر فيها ينشر إما بتوجيهات وتعليمات أو بعد العرض علي الرقيب المختص‏,‏ مع أنهم يعلمون جيدا ما يجري داخل الصحف المصرية‏,‏ ويعلمون أن نظام الرقيب والرقابة انتهي من الصحافة المصرية منذ ما يقرب من ثلاثين عاما‏,‏ وليس لوزير الإعلام في مصر سلطة علي الصحافة‏,‏ بل إنه لا يزور الصحف إلا نادرا وفي مناسبات عامة‏,‏ حرصا منه علي الاحتفاظ بمسافة بينه وبين الصحف والصحفيين‏.‏

ولو أن هذه الإشارات التي تشكك في حرية الصحافة في مصر جاءت من غير الأمريكيين لالتمسنا لأصحابها العذر‏,‏ أما الأمريكيون فهم قريبون مما يجري بأكثر من غيرهم‏,‏ ويعلمون الكثير‏,‏ وفيهم كثيرون يعرفون الحقيقة ويدركون أن حرية الصحافة في مصر حقيقة مستقرة‏,‏ وأنها لا تخضع إلا للقانون‏,‏ والضمير‏,‏ وميثاق الشرف‏,‏ وأن فيها تجاوزات ليست موضع رضا من السلطات أو المسئولين ولا من الرأي العام‏.‏ ومع ذلك فإن القانون وحده هو الفيصل‏,‏ ونحن في دولة يملك فيها القضاء إلغاء قرارات جمهورية‏,‏ ويملك أيضا إلغاء قوانين‏,‏ بل يملك إلغاء البرلمان‏,‏ وكل السلطات وعلي رأسها رئيس الدولة ملتزمون بمبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء‏..‏

هذه الحقائق معروفة جيدا في أمريكا‏,‏ ولكن بعض الكتاب وبعض أعضاء الكونجرس‏,‏ لدوافع سياسية‏,‏ يلجأون إلي المغالطة‏,‏ وخلط الأوراق‏,‏ ويحاولون تشويه صورة مصر عن عمد أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي‏..‏ لكن في مصر يقين بأنه لا يصح إلا الصحيح في النهاية‏,‏ وفي المثل العامي المصري أن الكذب ليس له رجلين‏.‏

والأغرب من كل ذلك أن هؤلاء ينطبق عليهم قول السيد المسيح‏:‏ لماذا تنظر إلي قشة في عين أخيك ولا تنظر إلي الخشبة في عينك‏..‏ وهذا ما جعلني أعود إلي البروفيسور الأمريكي المشهور ناعوم تشومسكي وهو كما وصفه السفير السابق تحسين بشير يصل إلي نتائجه بتحليل علمي جامد لا أثر فيه للعواطف والانفعالات‏,‏ وبهدوء العالم‏,‏ ويشرح دون انتظار تأييد أو قبول ولأن السفير تحسين بشير كان قريبا منه في أثناء إقامته الطويلة في الولايات المتحدة‏,‏ وتشومسكي يهودي له شهرة عالمية في تخصصه في اللغويات وفي الجانب السياسي‏,‏ وله مقالات وكتب عديدة يكشف فيها الوجه الطاغي في أجهزة الإعلام الأمريكية التي يعتبرها جريمة ترتكب باسم الحق والعدل والسلام‏,‏ وهي جريمة طمس معالم الشعب الفلسطيني وحقوقه‏,‏ والعمل علي إبراز جانب واحد من المعادلة هو حقوق الشعب الإسرائيلي وإغفال حقوق الشعب الفلسطيني‏,‏ وكأن الفلسطينيين ليسوا شعبا‏,‏ أو كأنهم لا حقوق لهم‏,‏ وهو يستند في ذلك إلي تحليل طوفان المادة الإعلامية في أمريكا ليصل إلي أن الإعلام الأمريكي يغطي وجه الحق في هذه القضية بالضباب الذي يلفها به‏,‏ وبالأضواء المبهرة التي تعمي البصر والبصيرة‏,‏ ولم تمنعه نشأته وثقافته اليهودية من أن يعلن رفضه للتحيز الإعلامي الأمريكي ضد العرب والفلسطينيين‏,‏ وهو يقول إن اليهود هم أولي الناس بتعلم الدرس‏,‏ وهو أن غياب الحق والعدل لا يمكن أن يستمر إلي الأبد‏,‏ ويقول إن اليهود هم أكثر الشعوب التي عاشت سنين الاضطهاد أمام الطغاة‏,‏ وظلوا يقاومون‏,‏ ومن مصلحتهم أن يواجهوا حقوق الفلسطينيين والعرب بالمستوي نفسه الذي يواجهون به حقوق الإسرائيليين واليهود‏,‏ ويكيلون بمكيال واحد‏,‏ لأن ظهور الحق الفلسطيني وما يتعرض له الفلسطينيون من الظلم والتمييز هو الذي يفتح الطريق إلي المصالحة التاريخية ويسمح للطرفين بالتعايش السلمي‏,‏ ويحقق الأمن للجميع‏.‏

وتشومسكي يختم دراسة واسعة عن الانحياز الأمريكي في كتابه

‏TheFatetulTriangle

‏ الذي ترجمته أخيرا الدكتورة علياء رافع بعنوان الثالوث الخطر والمصير المحتوم‏..‏ الولايات المتحدة‏,‏ إسرائيل‏,‏ والفلسطينيون يقول‏:‏ إن السلاح السري الذي يجعل كل الحسابات العقلية أمرا مشكوكا فيه‏,‏ هو أنها يمكن أن تتصرف بأسلوب يمكن اعتباره في الشئون الدولية الدولة المجنونة‏..‏ والآن يبدو واضحا مادامت أن الولايات المتحدة ملتزمة بتأييد إسرائيل كعون استراتيجي‏,‏ وتقف عائقا أمام الإجماع الدولي للتسوية‏,‏ فسوف تكون احتمالات المستقبل أكثر مأساوية‏..‏ قهر‏..‏ وإرهاب‏..‏ وحرب‏..‏ إلخ‏..‏

وتشومسكي هو الذي كشف عن الأصابع الخفية التي تحرك الإعلام الأمريكي ومؤسسات الإعلام الكبري التي تبيع منتجاتها الإعلامية للسوق‏,‏ ولخدمة مصالح من يدفع‏,‏ ولذلك يدعو تشومسكي إلي تحليل الإعلام الأمريكي برؤية نقدية وتشكيكية‏,‏ خاصة أن النظام الإعلامي الأمريكي معظم إنتاجه يدخل في باب البروباجندا‏..‏ كما يتحدث تشومسكي عن الأهداف الأمريكية غير الحقيقية مثل شعارات حقوق الإنسان‏,‏ والتحول للديمقراطية‏,‏ ورفع مستوي المعيشة‏,‏ فهي تخفي أهدافا أخري‏.‏

وتشومسكي هو الذي كشف عن أن استراتيجية الممارسات الإسرائيلية هي ـعلي حد تعبيره

‏Shooting and crying‏

التي ترجمها أستاذ اللغويات الدكتور حسن وجيه بالمثل العربي ضربني وبكي وسبقني واشتكي‏..‏ وهو الذي أعلن في حوار مع الدكتور حسن وجيه أن نتائج دراسته لتحليل تفاعلات الإعلام الأمريكي توصلت إلي أن هناك بوابات إعلامية تسمح أو تمنع نشر الأخبار والصور وهذه هي الحقيقة‏,‏ وهناك هامش من الحرية في أمريكا ليس موجودا في أي مكان آخر‏,‏ ولكن الحديث والنقد الموجع للنخبة الحاكمة أو لحراس الأيديولوجية المهيمنة يودي بصاحبه وبمستقبله‏.‏

ويطول الحديث عن حرية الإعلام الأمريكي ليمتد إلي تأثير الأموال والاحتكارات الكبري واللوبي اليهودي‏..‏ و‏..‏ و‏..‏ وليت توماس فريدمان يحدثنا عن ذلك‏,‏ أو يسمح لنا بأن نحدثه عما يقوله مفكرون وأساتذة له قيمة من حقائق أغرب من الخيال‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف