محو الأمية السياسية أولا

هناك قائمة طويلة ومعروفة بالمشكلات الاجتماعية‏,‏ والخسائر الاقتصادية‏,‏ والآثار الحضارية السلبية التي يتحملها المجتمع نتيجة انتشار الأمية‏,‏ ولذلك اهتمت الدولة بمحو الأمية‏,‏ وانشأت هيئة قومية مسئولة عن ذلك‏,‏ وجعلت محو الأمية مشروعا قوميا للقرن الـ‏21..‏ ولكن ما يجري داخل بعض الاحزاب‏,‏ وما يتفجر في المجتمع من ظواهر الجريمة والمخدرات والتطرف وعدم القدرة علي الفهم والتفاهم‏,‏ يؤكد ان المجتمع يعاني أمية أشد وطأة‏,‏ وأكثر خطورة من أمية القراءة والكتابة‏,‏ هي ما يمكن اعتباره الأمية السياسية‏.‏ وليس في هذه التسمية مبالغة‏.‏

واذا كانت أمية القراءة والكتابة تقترن بانخفاض انتاجية العامل أو الفلاح‏,‏ وبانتشار الأمراض‏,‏ والجريمة‏,‏ والمخدرات‏,‏ والخرافات وتفكك الأسرة‏,‏ وسوء تربية الأبناء‏..‏ الخ‏,‏ فن الخسائر التي يتحملها المجتمع نتيجة انتشار الأمية السياسية أشد وأكثر‏..‏ ابتداء من غياب الشعور بالولاء والانتماء وضعف الروح الوطنية لدي البعض‏,‏ الي عدم الاهتمام بالمشاركة في الحياة العامة‏,‏ وضعف المساهمة الفعالة في الأحزاب وفي الانتخابات العامة‏,‏ الي سهولة انقياد البعض للشائعات دون تفكير أو مقدرة علي التحليل والنقد‏,‏ أو الانسياق وراء دعوات التطرف السياسي التي تلبس مسوح الدين‏.‏

واذا لم نبادر ونعطي الأولوية لمحو هذه الأمية السياسية فان مساحة تأثيرها السلبي سوف تمتد ليس بين الشباب وحدهم‏,‏ بل بين القطاعات المختلفة كما ظهر في الفترة الأخيرة‏..‏ وقد انشأنا هيئة لمحو أمية القراءة والكتابة وهي امية بسيطة‏,‏ وجاء الوقت لوضع تصور لكيفية محو الأمية السياسية‏,‏ وقد يكون ذلك بإنشاء هيئة او جهاز قومي متخصص ومستقل عن الجهاز التنفيذي وعن الاحزاب لتكون له الصفة القومية وقد يكون ذلك بوسائل أخري يمكن التفكير فيها عندما تتبلور إرادة العمل‏.‏

المشكلة التي تقف دائما أمام طرح هذا المشروع القومي ان الحديث عنها يعيد الي الأذهان تجربة منظمة الشباب التي انشئت في الستينيات لاعداد كوادر سياسية من الشباب‏,‏ روظهرت فيها سلبيات‏,‏ ووجهت اليها انتقادات بانها اعتمدت علي أسلوب التلقين‏,‏ وتحولت الي صب عقول الشباب في قالب واحد‏,‏ وملأت فكرهم بالشعارات ولم تدربهم علي استخدام أساليب التفكير والتحليل وتنمي فيهم القدرة علي التفكير الابتكاري‏..‏ ومع ان هذه الانتقادات ليست صحيحة علي اطلاقها‏,‏ وتقويم هذه التجربة لابد ان يكون في اطار ظروفها المحلية والدولية خاصة انها كانت المنظمة الوحيدة للتنظيم السياسي الوحيد‏,‏ والظروف الآن مختلفة وبالتالي فان تصور كيفية اعداد الشباب اعدادا سياسيا سوف يكون مختلفا‏.‏

لقد انتهي التنظيم السياسي الواحد‏,‏ ونحن الآن في مرحلة ليبرالية وتعددية فكرية وحزبية‏,‏ وامام كل مواطن عدة خيارات ومساحة للاختلاف‏,‏ هناك أهداف قومية عامة ليست موضع خلاف ويجب ألا تكون موضع خلاف لانها تمثل الاطار العام الذي نتحرك بحرية ونختلف في داخله‏,‏ وما نحتاجه الآن هو تنمية ارتباط المواطن بالوطن‏,‏ وتنمية روح الانتماء وبناء سياج أمان في عقل كل شاب لحمايته من الفكر المخرف‏,‏ والدعوات المضللة‏,‏ والاغراءات التي تسحبه الي خيانة وطنه في بعض الأحيان دون وعي‏,‏ ودون ان تكون لديه القدرة علي رؤية ما وراء السطح البراق‏..‏ ما نحتاجه هو تنمية قدرة المواطن علي التمييز بين الحقائق والشائعات‏,‏ وان يدرك حقيقة ما تهدف اليه محاولات إثارة مشاعره‏,‏ وما ينشر ويتردد من شائعات أو قضايا مغلوطة وبأسلوب يعتمد علي الخداع والاثارة‏.‏

فالأمية السياسية هي تجعل بعض الشباب سهل الانقياد‏,‏ وقابلا للوقوع في الفخاخ المنصوبة له‏-‏ وما أكثرها‏-‏ لاستغلاله ليعمل دون ان يدري لخدمة مصالح وأهداف معادية للمجتمع واستقراره‏..‏ والأمية السياسية هي الني تجعل الشباب والكبار أيضا يختلفون علي ما لا يجوز الخلاف عليه من أساسيات بناء المجتمع وحول الأهداف والمصالح القومية‏,‏ والخلط بين ما هو حزبي يمكن ان يكون موضع اختلاف وصراع‏,‏ وما هو قومي يجب أن يكون موضع اتفاق الجميع والمساس به ليس مساسا بحزب أو بحكومة‏,‏ ولكنه مساس بالوطن‏..‏ وهذه الحقائق معلومة ومحترمة في كل الدول الديمقراطية‏..‏ بل هي من البديهيات التي لا يختلف عليها رجل السياسة أو رجل الشارع‏.‏

وفي هذه الدول الديمقراطية المتقدمة تقوم المدرسة والجامعة بالدور الأكبر في تنمية الوعي والاحساس بالمسئولية القومية‏..‏ فكل أمريكي أو بريطاني أو ألماني يعرف مصالح بلده ويتمسك بالقيم الأساسية للمجتمع سواء كانت هذه القيم قيما سياسية أو اجتماعية‏,‏ وكل مواطن في هذه الدول وامثالها يعرف بالتفصيل مباديء دستور بلده‏,‏ والقوانين الحاكمة لتصرفاته وسلوكه‏,‏ ويعرف بدقة وبوضوح حقوقه وواجباته‏,‏ ولا يحتاج الي من يقوده بالاكراه للالتزام بها‏..‏ حتي السلوك اليومي في الشارع‏,‏ وقيادة السيارة‏,‏وآداب الوقوف في الطابور‏,‏ واحترام حقوق الآخرين‏,‏ حتي مثل هذه الأمور يتعلمها المواطن منذ طفولته وتدخل في نسيج ثقافة المجتمع كله‏.‏

ونحن نشكو من قلة اهتمام الناخبين بالاشتراك في الانتخابات‏,‏ وقلة وعي الشباب بالقضايا الجوهرية التي تمثل دعائم التنمية الاقتصادية والاجتماعية‏..‏ ونشكو عدم ظهور قيادات مدربة كافية تمثل المرأة والشباب في الاحزاب‏,‏ وفي مجلس الشعب‏,‏ وفي المجالس المحلية‏,‏ وفي مجالس ادارات الشركات أو الجمعيات أو النقابات‏..‏ الخ‏..‏ ونشكو من السلبية كمرض مزمن ومنتشر‏..‏ وليس له علاج إلا بمحو الأمية السياسية أولا‏.‏

وفي الدول الديمقراطية لكل حزب مدرسة لاعداد الكوادر وبرنامج له صفة الدوام والاستمرار للتربية السياسية ولتدريب العناصر الواعدة من الشباب علي القيادة‏..‏ ولا يتم ذلك بتنظيم محاضرات ليوم أو يومين كما يحدث عندنا‏..‏ أو بمعسكر لبضعة أيام لا يتكرر بالنسبة للشاب الواحد‏..‏ ولا يتم بمعرفة متطوعين أو هواة ولكنه يتم علي أيدي خبراء متخصصين‏.‏

وربما يقال ان الاحزاب عندنا مازالت ضعيفة من حيث البناء التنظيمي والقدرات الفكرية والتدريب السياسي‏,‏ وهذا صحيح ويجعل المسئولية الأكبر تقع علي مؤسسات التعليم والاعلام‏,‏ وهي مؤسسات قومية ولا تعمل لمصالح أو أهداف حزبية‏.‏

ويقال عادة ان في مناهج دراسة التاريخ والتربية القومية في المدارس الكفاية لتحقيق هذا الهدف‏..‏ واعتقد ان ذلك لا يكفي بدليل ما نلمسه من نتائج‏..‏ والفكرة ليست مجرد اعطاء معلومات‏..‏ الفكرة هي تعميق الايمان بالوطن ومصالحه‏..‏ وغرس روح الولاء والانتماء والاستعداد للتضحية بالمصالح الشخصية من أجل المصلحة العامة وليس العكس‏..‏ الفكرة هي بناء العقل ليكون محصنا ضد الافكار والدعوات المنحرفة‏..‏ واخشي ممن يعملون علي تبسيط كل فكرة الي حد جعلها فكرة عادية وربما سخيفة‏..‏ وقد يكون الحديث مكررا‏-‏ وهذا صحيح‏-‏ ولكن ما العمل اذا كانت المشكلة مازالت قائمة وتزداد تفاقما بالرغم من كثرة الحديث عنها‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف