المثقف الانتهازى و المثقف السلبى

المثقفون هم دائما القيادة الطبيعية للمجتمع‏,‏ لانهم يملكون قدرات وادوات تجعلهم الاقدر علي تحليل وفهم الواقع ومشكلاته‏,‏ والاكثر استبصارا وقدرة علي ممارسة سلطة النقد والتوجيه‏,‏ والمفروض انهم الأكثر ولاء واخلاصا للقضايا الوطنية‏..‏ولكن ذلك لايحدث دائما‏..!‏

ففي كل عصر تظهر فئ‏{‏ من المثقفين تستخدم مواهبها وقدراتها الذهنية لاغراض شخصيته‏,‏ ويضعون فكرهم وثقافتهم سلعة في السوق الحرة لمن يدفع اكثر‏..‏ هذه الظاهرة ليست مقصورة علي المثقفين المصريين والعرب‏,‏ ولكنها موجودة دائما في كل عصر‏,‏ وفي كل البلاد‏,‏ مع فوارق بين المثقف الانتهازي في الدول النامية‏,‏ والمثقف الانتهازي في الدول المتقدمة‏.‏

واذا حاولنا ان نستعرض بعطي صور المثقف الانتهازي فسوف نجد اكثر من نموذج لاتخفي ملامحه علي احد‏,‏ وان كان البعض بارعا في التنكر‏,‏ وادعاء التجرد والنزاهة والموضوعيه‏,‏ والتفاني في الدفاع عن الوطن وقضاياه‏.‏ ويكفي ان نشير الي بعض نماذج‏:‏

فالديقراطية‏,‏ وحقوق الانسان‏,‏ والدعوة الي الإصلاح السياسي والاجتماعي‏,‏ ونقد السلبيات في العمل العام كلها من القضايا الاساسية التي يضعها المثقف علي رأس اولوياته‏,‏ ودوره الطبيعي ان يكون داعية لحرية الرأي‏,‏ ولانصاف المظلومين والمهمشين في المجتمع‏,‏ وان لم يفعل ذلك يكن مقصرا في اهم واجب من واجباته تجاه بلده‏..‏لكن المشكلة تظهر حين يقوم بذلك لحساب جهات اجنبية‏,‏ او بتكليف وتوجيه وتمويل منها‏..‏ومن الطبيعي ان يسأل الانسان نفسه‏:‏ لماذا تخصص الدول الكبري الاموال الطائلة لتمويل انشطة معينة في الدول الصغيرة‏,‏ مثل اجراء البحوث الخاصة باوضاع وسلبيات فئات معينة في المجتمع‏,‏ وجمع معلومات واحصائيات عن موضوعات لها طبيعة خاصة‏,‏ وفتح قضايا من شأنها تغذية عوامل الانقسام في المجتمع‏,‏ واثارة خلافات وصراعات كان يمكن علاجها بهدوء وببساطة‏,‏ اوإثارة خلافات وصراعات لم يكن لها وجود اصلا‏..‏

ولماذا نشأت في السنوات الأخيرة مراكز ومكاتب مخصصة لاجراء هذه الابحاث‏,‏ وتنظيم ندوات تجمع المثقفين والشباب حول موضوعات ظاهرها السعي الي تطوير المجتمع‏,‏ ولكن المتتبع لها بدقة يكتشف ان لهذه الندوات اجندة خفية لغرس افكار معينة مثل الانتقال من نقد سلبيات الاوضاع القائمة في المجتمع الي اثارة السخط العام علي كل ما في المجتمع‏,‏ مثل الايحاء بأن مفاهيم الوطنية والولاء والانتماء هي جزء من مخلفات الماضي‏,‏ وان المواطن العالمي وطنه هو العالم كله‏,‏ وولاؤه يتجاوز الحدود كما تتجاوز الحدود الشركات المتعددة الجنسيات لان هذه هي سمة العصر‏..‏ وان فكرة تراب الوطن او فكرة تراث منظمات الاجداد من علامات التخلف الحضاري‏,‏ وان اصول الدين ذاته اصبحت محتاجه الي اعادة نظر‏..‏وهكذا‏.‏

ولأن مثل هذا التيار يجد الدعم من منظمات وهيئات خارجية عديدة‏,‏ ويتيح لمن يشارك فيه فرصا نادرة للسفر وحضور مؤتمرات واجتماعات في العديد من الدول الكبري مع تسهيلات في السفر المجاني والاقامة المجانية في فنادق خمس نجوم والحصول علي مصروف جيب ايضا‏..‏ كما يتيح فرصة الحصول علي عمل في الداخل‏..‏وتسمع من اكثر من استاذ ان جهة ما كلفته باعداد بحث ودفعت له عشرة آلاف دولار مكافأة ويعلق علي ذلك بقوله‏:‏ هؤلاء قوم يقدرون قيمة البحث والباحثين‏!‏

وقد كتب أحد الأساتذة مقالا منذ سنواات أبدي فيه دهشته لأنه دعي لحضور مؤتمر في لندن‏,‏ وفوجئ في مطار القاهرة بأن الطائرة كلها تقريبا تضم اساتذة جامعات ومفكرين وصحفيين مصريين‏,‏ ونزلوا جميعا في فندق فاخر في قلب لندن‏,‏ ووجد كل منهم مكافأة سخية في انتظاره عن ورقة البحث التي اعدها‏,‏ وكان الحوار كله عن العوامل السلبية في المجتمع المصري ابتداء من التعليم والصناعة والزراعة الي الارهاب والجريمة والمخدرات واحوال الشباب المصري والاتجاهات السائدة فيه‏..‏ الخ

وليس غريبا ان تجد بعض المثقفين يضعون مواهبهم لتبرير انحرافات الطبقة الجديدة التي ظهرت في بدايات السبعينيات وعملت في اغتصاب اراضي الدولة‏,‏ والاستيلاء علي اموال البنوك‏,‏ ودور بعض المثقفين في دعم شركات توظيف الاموال والترويج لها وتجميل صورة اصحابها امام الرأي العام‏..‏

هذا الدور مازال حيا في الاذهان‏!‏ وكذلك فان دور بعض المثقفين في الدفاع عن جماعات الارهاب بتصويرها علي انها جماعات تهدف الي الاصلاح‏,‏ واحياء علوم الدين‏,‏ والدعوة الي نشر الفضائل‏,‏ وانها اذا لجأت الي العنف فإنما ذلك نوع من التجاوز او طيش الشباب الذي يمكن تقويمه بالحوار والموعظة الحسنة‏..‏وهؤلاء المثقفون‏-‏ في رأيي هم الكتيبة المتقدمة التي تعمل علنا لتفتح الطريق للذين كانوا يقومون بعمليات الارهاب في الخفاء‏,‏ ومازال هؤلاء المثقفون يعملون بكل قوة علي اقناع الرأي العام ببراءة الارهابيين وحسن نياتهم‏..!‏

هذه بعض صور عن المثقف الانتهازي‏..‏ والامثلة كثيرة نراها ونسمعها ونقرأ لها‏..‏ ولاتخفي حقيقتها علي من يقوم بتحليل الرسالة التي يوجهها هؤلاء الي الرأي العام‏..‏ وقد يكون طبيعيا في مرحلة تحول ان تظهر الانتهازية ويظهر الانتهازيون في السياسة‏,‏ والصحافة‏,‏ والاقتصاد‏,‏ والادب‏,‏ والفكر‏,‏ وفي الاحزاب والمؤسسة التشريعية‏,‏ وفي مجالات اخري‏..‏ وكلما تقدم المجتمع خطوة الي الامام علي الطريق تقترب من نهايتها هذه المرحلة الضبابية التي تغيم فيها الرؤية احيانا‏,‏ ويختلط فيها الحابل وبالنابل‏,‏ والصالح بالطالح‏,‏ ويقوم فيها الشيطان بدور الواعظ‏,‏ ويتحول فيها الواعظ الي شيطان‏..‏ويصل المجتمع الي شاطئ الامان‏,‏ وتستقر الاوضاع والافكار والقيم‏,‏ ويتم ترتيب البيت‏..‏فهي مرحلة مؤقتة‏,‏ سوف تنتهي حتما‏,‏ ولكنها تحتاج الي يقظة ووعي وعيون مفتوحة لكي لا يؤثر هؤلاء المثقفون الانتهازيون في مسيرة المجتمع‏,‏ ويبقي حجمهم وتأثيرهم في الحد الذي لايمثل خطرا علي المستقبل‏.‏

لكن الذي لايمكن اغتفاره هو موقف المثقف السلبي‏..‏الذي يري ويعرف‏,‏ ويدرك خطورة مايجري‏,‏ ولايتحرك بدافع من شعوره بالواجب وبالمسئولية للتصدي للفكر المنحرف وللتحركات المريبة التي تجري علي الساحة السياسية والثقافية‏..‏دور المثقف ان يكون الحارس الامين الساهر علي حماية العقل والفكر من أي صورة من صور العدوان أو الانحراف‏,‏ وحماية المجتمع من اي محاولة من محاولات الاختراق تحت دعاوي ومسميات جديدة‏.‏ واجب المثقف ان يكشف ويفضح المثقف الانتهازي‏,‏ وان يقوم بالتوضيح والتبصير للرأي العام عن المخاطر الحقيقية التي تأتي مع العولمة ومحاولات الهيمنة وتغيير الشخصية والسيطرة علي العقل‏,‏ ومسخ الهوية القومية‏..‏واجب المثقف ان يكون لسان الحق‏..‏وصوت الضمير‏..‏والمدافع عن استقلال وحرية الوطن والمواطن‏..‏والتصدي لكل عدوان عليهما‏..‏واعتقد ان المسئولية الكبري الآن تقع علي عاتق المثقفين عموما‏,‏ واذا كان البعض يدرك مسئوليته ويعمل وفقا لها‏,‏ واذا كان المثقف الانتهازي سوف يظل موجودا كحقيقة من حقائق الحياة‏,‏ فان المثقف السلبي هو الذي يجب ان نوجه اليه باللوم‏,‏ وبالدعوة لان يتخلي عن سلبيته‏,‏ وان يتحمل مسئوليته التي يفرضها عليه الواجب والضمير‏..‏وان لم يكن المثقفون هم طليعة الدفاع عن الهوية وعن الشخصية القومية فمن غيرهم ستكون الطليعة؟‏!


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف