أزمة الثقافة و المثقفين

بعد أن انقشعت السحابة السوداء المضللة التي آثارها البعض عن عمد حول قصة اعشاب البحر‏,‏ نستطيع الآن تحليل الموقف بهدوء وبعيدا عن تشنجات البعض‏,‏ وبصرف النظر عن سوء أو حسن النيات في تضخيم أمر هذه القضية‏,‏ وان كانت المبالغة في رد الفعل تكشف في ذاتها عن وجود احتقان وتوتر في اكثر من موقع‏.‏

والقضية الأولي التي تستحق ان نشغل انفسنا بها قبل غيرها هي قضية أزمة الثقافة والمثقفين كما تكشفت‏,‏ لأن التغيير والتطوير والاصلاح الذي يتم في المجتمع لن يكتمل‏,‏ ولن يستمر في امان‏,‏ ولن يحقق اهدافه‏,‏ إلا بطليعة المثقفين التي تقود المجتمع‏,‏ وتوجه الرأي العام في الاتجاه الصحيح‏,‏ وتدافع بقوة عن الحريات والاخلاق والقانون‏,‏ وترسي قواعد حضارية وناضجة للحوار‏..‏ ولابد ان نؤمن بأنه ليس هناك بلد حقق نهضة وتقدما إلا بوجود هذه الطليعة من المثقفين‏,‏ ومازالت اسماء جان جاك روسو‏,‏ وسان سيمون‏,‏ وهيجل وكانط وجون لوك وبرتراند راسل ورفاعة الطهطاوي‏,‏ ومحمد عبده‏,‏ وطه حسين‏,‏ وسلامة موسي‏..‏ وغيرهم يمثلون القيادة الفكرية التي فتحت الطريق امام التطور اوالنهضة والامثلة يضيق بها المقام في كل العصور وكل الدول‏.‏

والمشكلة عندنا ان المجتمع يمر بمرحلة تغير سريعة وعميقة‏,‏ ولكن الافكار والقيم والعلاقات الاجتماعية لا تتغير ولا تتطور بنفس السرعة والعمق‏,‏ ومن هنا يظهر الصدام بين القديم والجديد‏,‏ ومن ناحية اخري هناك من يضرب بجذوره الفكرية والعقائدية في الجانب المتشدد أو الجانب الدخيل في الثقافة الاسلامية ويردد مقولات غلاة الشيعة‏,‏ والخوارج‏,‏ ويعيد انتاج الاسرائيليات المدسوسة في التراث الاسلامي‏,‏ والتي بذل الاقدمون جهودا كبيرة لكشفها والتدليل علي عدم تعبيرها عن جوهر الاسلام‏,‏ ولكن ما في هذا الفكر من غرابة يجذب البعض ويجعلهم يظنون انه يعطيهم فرصة لاظهار التفوق والتجديد‏..‏

والدور الحقيقي للمثقفين الآن ومسئوليتهم أن يكونوا ضمير المجتمع بحق‏,‏ ويقوموا بتنمية الوعي الحضاري والاجتماعي‏,‏ ويدعو معاركهم الجانبية علي المناصب والامتيازات‏,‏ ويعودوا الي فكرة الالتزام الاجتماعي وهذا الالتزام الاجتماعي يعني ان يكون المثقفون هم جنود الحقيقة‏,‏ لا يساومون عليها‏,‏ ولا يقبلون اخفاءها‏,‏ تحت ضغط عناصر ارهابية او ابتزاز اعداء الثقافة أو اغراءات الذين لهم مصلحة في تزييف وعي الامة‏..‏ الالتزام الاجتماعي يفرض علي المثقفين ان يستمروا دون كلل في خوض المعارك مع انصار الغباء والجهل وان يظلوا قائمين بوظيفتهم في شرح وتحليل الظواهر والقضايا التي تتولد خلال مسيرة المجتمع نحو التغير والتطور‏,‏ وهناك امور يظن بعض المثقفين انها واضحة بالضرورة ولا تحتاج الي ايضاح‏,‏ بينما يعمل البعض علي تشويه الحقائق‏,‏ وخلط الاوراق‏,‏ والشويش في العقول حتي علي البديهات‏,‏ وعلي سبيل المثال فإن قضية حرية الفكر او حرية الابداع‏,‏ او التفرقة بين معايير الفن وغيرها من المعايير قد تبدو في نظر البعض قضايا بدهية فرغنا من بحثها ومناقشتها‏,‏ واستقرت لدي الصفوة ولدي عامة الناس في الدول المتقدمة والنامية‏,‏ ولكن هذه البدهيات لم تعد واصحة عندنا الآن‏,‏ لأن هناك موجة من الفساد والافساد الفكري إعادت الفكر المصري الي نقطة الصفر و‏,‏ واستطاعت الغاء عصور كاملة من التقدم العقلي والتسامح الثقافي‏,‏ ونجحت في الوصول الي عقول شرائح في المجتمع فاصبحت معادية للتجديد وللتسامح الثقافي ولحرية التفكير والتعبير‏..‏ هنا يجب ان يتحول المثقف الحقيقي الي مصلح اجتماعي‏,‏ وهذا هو الدور الذي قام به الرواد الاوائل للنهضة الثقافية في مصر منذ علي مبارك ورفاعة الطهطاوي‏,‏ ويبدو انه اصبح مفروضا علينا ان نسير في دائرة وليس في خط مستقيم‏,‏ لنعود الي حيث بدأنا بدلا ان نواصل التقدم الي الامام‏,‏ وليس امام المثقفين إلا ان يتولوا مسئولية التغيير‏,‏ وتعديل المسار من الدائرة الي الخط المستقيم‏.‏

ولا نستطيع الفصل بين الجانب الثقافي وبقية الجوانب الاخري في المجتمع‏,,‏ ففي ظل حالة الركود في السوق‏,‏ والإغراق بالسلع الاجنبية وتأثيراتها علي التنمية الاجتماعية والاقتصادية‏,‏ وعملية التحول الي الخصخصة واقتصاد السوق لم تكتمل وفق قوانين وآليات ناضجة‏,‏ في ظل وجود اللانتهازية الاقتصادية‏,‏ والكسب الاستغلالي‏,‏ واقتصاد العمولة‏,‏ لابد ان يظهر السوق الموازية في النشاط الثقافي والفكري‏,‏ فيظهر تجار الثقافة‏,‏ ويظهر الاغراق في صورة استيراد افكار وقضايا لا تعبر عن مجتمعنا‏,‏ من مجتمعات اخري لها ظروف مختلفة‏,‏ ويظهر ايضا انتاج ثقافي يتميز بالأمية الثقافية وضحالة الفكر وتظهر محاولات لتشكيل المثقفين‏,‏ والمجتمع بروح القيم‏,‏ والتنكر للقيم الثقافية التي سادت حياتنا دائما من التسامح وسعة الافق ومواجهة الرأي بالرأي‏,,‏ وتظهر ايضا محاولات لنشر اللامبالاة السياسية‏,‏ ومحاولات لتعميق روح العداء السياسي‏,‏ ومحاولات لزيادة نشاط الغرائز الفردية المدمرة للمجتمع‏,‏ ومحاولات تزييف الواقع‏,‏ ومحاولات نشر ثقافات تصيب الناس بالعجز عن التفكير‏,‏ ويضاف الي كل ذلك‏,‏ ما تقوم به بعض المؤسسات الاجنبية لتوريد اسوأ ما في الغرب من قيم ثقافية واجتماعية‏.‏

والحديث عن ازمة الثقافة والمثقفين ليس جديدا‏,‏ ولكن الجديد هو الازمة‏,‏ لأن ازمة الثقافة في الخمسينيات مثلا مختلفة عن نوعية ازمة الثقافة والمثقفين في الستينيات أو السبعينات‏,‏ وهي بالقطع مختلفة اختلافا كبيرا عن ازمنة الثقافة والمثقفين الآن‏,‏ فوظيفة المثقفين هي التفسير والتحليل والتغيير والتشير بالقيم الجديدة‏,‏ وفتح الطريق امام المجتمع لكي يتقدم‏..‏ هل يقوم المثقفون بهذا الدور‏..‏ ؟ وكم هم المثقفون الذين يدركون هذا الدور‏,‏ ويقومون به ؟ وكم منهم علي استعداد لخوض المعارك وتحمل التضحيات من اجل اداء الواجب‏.‏

واعتقد ان ما يقال عن وجود‏..‏ طبقة طفيلية‏,‏ في الاقتصاد ينطبق ايضا علي حياتنا الثقافية‏,‏ فهناك ثقافة طفيلية ظهرت علي ايد ادعياء ودخلاء‏,‏ وتجار ثقافة‏,‏ يجيدون انتهاز الفرصة‏,‏ ولهم مآرب اخري‏.‏ غير الارتقاء بالمجتمع وتطويره‏,‏ وهم خدمة اسياد آخرين غير الشعب المصري‏.‏

وباختصار‏:‏ لقد اصبح عندنا مثقفون يضطلعون بمهمة الدفاع عن القيم والعدالة والحق ويسعون علي تعميقها وتوسيع نطاقها‏,‏ وعندنا يضا مثقفون يروجون الخرافات والاساطير والفكر المعادي للتقدم‏,‏ وعندنا أخيرا مثقفون هم في حقيقتهم اعداء للثقافة والفكر والتجديد‏,‏ وهم دعاة نكوص الي الوراء ونكسة الي عصور الظلام والغباء والجمود‏.‏

وهذا هو وقت الاختيار ولحظة الامتحان لكل واحد ليحدد علنا‏:‏ مع من‏..‏ وضد من‏..‏ هذا وقت الاختيار والتحديد‏,‏ وليس وقت المراوغة او الانتهازية‏,‏ او المواقف اللولبية‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف