معارضة أم عداء؟

لم يختلف أحد من المعلقين في الداخل والخارج علي أن حزب العمل انحرف عن المسار الحزبي السليم‏,‏ وأن صحيفته خرجت علي ميثاق الشرف الصحفي‏,‏ بل خرجت أيضا علي القانون‏,‏ بأسلوبها الاستفزازي الهابط‏,‏ وتوزيعها الاتهامات وأحكام الادانة علي المسئولين بغير دليل‏,‏ وتوجيه السباب والشتائم لهم بغير حساب‏.‏ ولم يختلف أحد في شعوره بالأسف لما وصل اليه هذا الحزب من تمزق داخلي نتيجة سيطرة الأقلية عليه‏,‏ واستخدام أساليب ارهابية علي الأغلبية‏.‏

ولاشك أن ما وصل اليه الحزب وصحيفته أمر يدعو الي الأسف‏,‏ لان هذه المرحلة كانت تحتاج الي ممارسة سياسية رشيدة‏,‏ تضمن تهيئة جو ديمقراطي تجري فيه الانتخابات القادمة‏..‏ ومسئولية تهيئة هذا الجو الديمقراطي ليست مسئولية الحكومة وحدها‏,‏ ولكنها مسئولية الأحزاب السياسية بالدرجة الأولي‏..‏ بما في ذلك حزب الأغلبية وأحزاب الأقلية المعارضة‏..‏ والمعارضة جزء من النظام وبالتالي فإن مسئوليتها عن حماية النظام لاتقل عن مسئولية الحزب الحاكم‏..‏ ودورها كمعارضة لايعني العداء للنظام‏,‏ أو كراهية النظام‏,‏ أو الخروج علي الشرعية‏,‏ أو تحدي القوانين القائمة‏,‏ أو التطاول علي أحكام القضاء‏.‏

المشكلة أن جناحا في حزب العمل تولي قيادته علي طريق حوله من حزب شرعي يعمل في إطار النظام ويشارك في مسئولية العمل علي السير بالحياة السياسية علي طريق الديمقراطية السليمة‏,‏ الي حزب يعمل خارج الشرعية‏,‏ ويسعي الي إثارة الشباب بقضايا مغلوطة‏,‏ ويتعمد إفساد مناخ الحوار والتفكير العقلاني‏,‏ بممارسة العنف‏,‏ وتوجيه الاهانات والاتهامات غير المسئولة‏,‏ ويفرض نفسه علي أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة المطلقة‏,‏ ويشوه كل من يخالفه باتهامه بأنه منحرف أو منافق أو كافر‏.‏ ولا يكتفي بالاتهامات ولكنه بدأ مؤخرا يستخدم خطاب التحريض‏,‏ وبذلك كان الحزب يستغل الديمقراطية والحرية لضرب الديمقراطية والحرية‏,‏ ويعطي نفسه حق الاختلاف ويهدد الآخرين اذا حاولوا ممارسة حقهم في الاختلاف معه‏,‏ وفقد بذلك صفته كحزب سياسي ديمقراطي وتحول الي مايشبه الميليشيا التي تعلن الحرب علي المجتمع وتحتكر هي وحدها الصواب والحكمة والحق في منح صكوك الإيمان والكفر علي الناس‏.‏

والديمقراطية في جوهرها هي حرية الاختلاف‏,‏ ولكنها ليست الفوضي أو الخلاف بلا حدود مما يجعل الوصول الي رأي أو قرار أمرا مستحيلا‏,‏ والديمقراطية تبدأ من نقطة اتفاق كل الأطراف علي المباديء والقيم والأهداف الأساسية للمجتمع‏,‏ ثم تختلف رؤية كل فرد أو جماعة في أسلوب الوصول الي تحقيق هذه الأهداف‏..‏ يري البعض أن الليبرالية هي الحل‏..‏ ويري البعض الآخر أن الاشتراكية الديمقراطية هي الحل‏..‏ ويري فريق أن الحل هو البحث في الشريعة عن حلول لكل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والدولية‏..‏ وهكذا تتعدد الطرق والوسائل ويبقي الهدف واحدا هو التنمية‏,‏ والنهوض بالمجتمع‏,‏ وتحقيق العدالة بكل صورها‏,‏ والحفاظ علي حرية الوطن واستقلاله‏,‏ وعلي حرية الارادة الوطنية واستقلالها‏..‏ فإذا جاء حزب العمل علي هدم المباديء الأساسية‏,‏ ويفرض نفسه علي أنه وحده الصواب والجميع علي خطأ‏,‏ وهو وحده المؤمن والباقي كافرون‏,‏ فإن من حقنا أن نتوجس خيفة علي مسيرة العمل الوطني‏,‏ بل وعلي مستقبل الوطن ذاته‏.‏ فاذا أضاف هذا الحزب الي ذلك ممارسة خطاب العنف ضد من يخالفه‏,‏ ودعا الي العنف كوسيلة لفرض الرأي‏,‏ فإنه يكون قد أصبح خطرا علي حرية الرأي‏..‏ لان أصحاب الرأي لا يضيقون بأصحاب الرأي المخالف ماداموا قادرين علي الحوار بالمنطق والدليل‏,‏ وكل محاولة لممارسة الضغط علي الآخر هو دليل افلاس‏,‏ وضعف القدرة علي مواصلة الحوار وتحمل الاختلاف‏.‏

ولعلنا نذكر الحكمة الشهيرة التي تلخص جوهر الديمقراطية وتقول‏:‏ إنني اختلف معك في الرأي‏,‏ ولكنني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لحقك في أن تعلن رأيك فكيف يظهر عندنا من يري أنك اذا اختلفت معه فلابد أن تدفع حياتك أو كرامتك ثمنا لهذا الاختلاف‏..‏ مثل هذا التيار اذا استمر‏,‏ واستقر‏,‏ سوف يهدد استقرار المجتمع‏.‏

والفارق بين الديمقراطية والفاشية‏,‏ أن الديمقراطية تؤمن بالحق في الاختلاف‏,‏ وتسمح بالحوار‏,‏ ولا تلجأ الي وسيلة أخري غير الحوار‏,‏ والفاشية تؤمن بالرأي الواحد‏,‏ والموقف الواحد‏,‏ وتعطي نفسها حق احتكار الحقيقة واحتكار الحق في القرار‏,‏ وتجعل نفسها المعيار الوحيد للصواب والخطأ‏,‏ وللإيمان والكفر‏,‏ فالحزب الفاشي هو الذي يعتبر نفسه صاحب المرجعية الوحيدة‏,‏ والحزب الديمقراطي هو الذي يعلن آراءه ومواقفه‏,‏ ويسمح للآخر بإعلان آرائه ومواقفه‏,‏ وينزل علي حكم الأغلبية‏.‏

ولعلنا نتعلم معني الحرية من الإمام مالك الذي كان يجلس في مسجد الرسول صلي الله عليه وسلم ويقول لمن يخالفه في الرأي‏:‏ كلكم يرد عليه إلا صاحب القبر هذا‏..‏ ويشير الي قبر الرسول صلي الله عليه وسلم‏..‏ لأنه هو وحده الذي أمرنا الله بطاعته والامتثال لأمره‏.(‏ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏)‏ أما غيره من البشر فليسوا إلا بشرا يخطيء ويصيب ويمكن الرد عليه والاختلاف معه‏,‏ وكان الإمام الشافعي حين يبدي رأيا ويقال له إن من الأئمة من قال برأي آخر يقول‏:‏ هم رجال ونحن رجال‏..‏ أي أن الله وهبنا العقل والقدرة علي التفكير كما وهب غيرنا‏,‏ فلماذا يدعي قوم أنهم هم وحدهم أهل الصواب‏.‏؟ وهذا ما جعل الأئمة يختلفون دون حرج أو يتهم بعضهم بعضا في عقيدته‏.‏

وما جري علي الساحة السياسية أخيرا جرس انذار يدعونا الي الانتباه والحذر لحماية الديمقراطية‏,‏ والحياة الحزبية السليمة‏,‏ وأهم من ذلك يدعونا الي الحذر من الوقوع في هاوية العنف والارهاب‏..‏ ولو انتشر خطاب العنف والارهاب والابتزاز الذي بدأه حزب العمل وصحيفته لكانت الطامة الكبري‏..‏ ومازالت هناك فرصة للعودة الي الصواب‏,‏ وتصحيح المسار‏,‏ والسير في قافلة التعددية السياسية التي تعطي لكل حزب الحق في أن يعيش ويدع غيره يعيش‏,‏ وتعطي لكل حزب حرية الرأي ولا تصادر حرية الآخرين‏..‏ لان مناخ المصادرة والارهاب الفكري والسياسي اذا بدأ فلن ينتهي وسوف يصيب الجميع‏..‏ ومناخ الحريات والتسامح اذا انتشر فسوف تزدهر الديمقراطية وتنمو الأحزاب نموا طبيعيا في مناخ صحي‏,‏ وتصبح قوة مضافة الي قوة الوطن وليس العكس‏.!‏

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف