هذا وقت النقد الذاتى

فى الحروب تتوقف الجيوش بعد مرحلة من المراحل لإعادة تقدير الموقف، والنظر إلى ما تم إنجازه وما لم يتم، ودراسة السلبيات والإيجابيات فى أداء القادة والجنود، ومدى نجاح الخطط التى وضعوها وما تحتاج إليه من تعديل أو تغيير، هذه الوقفة يسميها العسكريون «وقفة تعبوية» لأنها فرصة للتعبئة اللوجستية والمعنوية استعدادا لمواصلة المعارك بشكل أفضل.
والثورة مثل الحرب، فيها الحشد والحماس، وفيها الاستراتيجية والتكتيك، وفيها تقع أخطاء قد تكون نتيجة التسرع والاندفاع، أو تكون نتيجة نقص الاستعداد، أو قلة الكفاءة، أو نتيجة انحراف مقصود أو غير مقصود عن الأهداف التى قامت الحرب لتحقيقها والانجراف إلى السير نحو أهداف فرعية.. أسباب كثيرة تجعل الثورة والحرب فى احتياج إلى هذه «الوقفة التعبوية» للمراجعة، والمصارحة، وتصحيح الرؤية والمسار.
ومن الطبيعى أن يرفض البعض الاعتراف بالخطأ، ويسمون الاعتراف بالخطأ «جلد الذات» تعبيرا عن تمسكهم بالعناد والمكابرة ورفض محاسبة النفس، وكلها من أعراض ظاهرة سيكولوجية تعبر عن الهروب من تحمل المسئولية عن الأخطاء وافتقاد الشجاعة للاعتراف بالخطأ وتصحيحه، وبالنسبة للثورة المصرية وبعد مرور أكثر من عامين على قيامها كان المتوقع أن تتفاعل القوى الثورية معا وتتغلب على الاختلافات فيما بينها وتقبل صيغة الوحدة فى إطار التعددية، وتجعل من هذه التعددية إثراء للتجربة الثورية.. وكان من المفترض أن تصل القوى الثورية المختلفة إلى درجة من الإحساس بالمسئولية عن حماية واستقرار ومستقبل وطن يعيش فيه أكثر من تسعين مليون إنسان لهم مطالب وآمال ويعانون من مشاكل وطالت معاناتهم وينتظرون أن تحقق لهم الثورة ما وعدت به. كان ومن المفترض أن تكون الحركة السياسية فى أعقاب الثورة فى اتجاه البناء وتقديم الحلول للمشاكل التى ثارت الجماهير بسببها، والمساهمة فى التخفيف عن معاناة الناس، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن بصورة مرضية.. لماذا؟!
لماذا لم يحدث ما كان مأمولا ومفترضًا وقد مضى أكثر من عامين على قيام الثورة؟
السبب الذى يردده البعض هو احتكار جماعة للعمل وإقصاء الشباب الذى أشعل الثورة وقدم فيها التضحية بالأرواح وأصحاب هذا الرأى يقولون إن ذلك أدى إلى غياب القيادة الجماعية، وروح العمل الجماعى، وغياب الحوار الحقيقى الذى يعنى المشاركة فى القرار، وظهرت بدلا من كل ذلك المناقشات السوفسطائية الأقرب إلى جدل العصور الوسطى، ولذلك لم تجد الجماهير زعامات سياسية حقيقية لديها القدرة على القيادة واستشراف المستقبل وتأليف القلوب وراء أهداف واضحة ومحددة شارك الجميع فى صياغتها وارتضوا أن يعملوا معا لتحقيقها.. لم يتحقق ذلك.. لذلك ازدادت المطالب الفئوية لأنه فى غياب الحشد والمشاركة والعمل الجماعى الذى يستوعب الجميع تظهر الروح الفردية والفئوية والبحث عن المغانم.. وفى هذا الوضع الملتبس لم يشعر الناس بالإنجازات التى تحققت، وظلت معظم الأحزاب على حالها بعيدة عن التواصل والتأثير فى الشارع، وتأثيرها مقصور على دائرة محدودة من النخبة، وهذا الانفصال وعدم التواجد مع الناس هو السبب فى حالة القلق السائدة فى الشارع والتى تعبر عن نفسها بالانفلات والعنف والاستهانة بالقانون، ويساعد على استمرار الانفلات والفوضى أن معظم الأحزاب تركز على الحوارات فى القنوات التليفزيونية وإجراء أحاديث والإدلاء بتصريحات للصحف أو كتابة سطور على مواقع التوصل الاجتماعى الالكترونية وهذا أسلوب جديد للقيادة السياسية يمكن تسميته «القيادة من بعد» بعيدا عن حميمية اللقاء المباشر مع الناس، وحتى الأحزاب التى تنظم لقاء بين الحين والحين فإنها تقيم سرادقا ومنصة للخطابة يتبادل عليها الخطباء وتعلو الأصوات بمكبرات الصوت ثم ينصرف الجميع دون أن يشارك الحاضرون أو يعبروا عما لديهم ودون أن يستمع إليهم أحد من قادة هذه الأحزاب، وهذا هو نفس الأسلوب الذى ثارت الجماهير عليه.. الحوار من طرف واحد.. من أعلى إلى أسفل وليس العكس، والنتيجة أن الناس يشعرون بالعزلة وبعدم اكتراث القيادات الحزبية بهم واعتبارهم مجرد أدوات للتصفيق والهتاف ورفع هذه القيادات على الأعناق والتصويت لها فى الانتخابات، ثم ينتهى دورها وتذهب هذه القيادات بعيدا وتظل الجماهير على ما كانت عليه من التجاهل.
***
هذا الانفصال، وهذه العزلة، وهذه الفجوة من أهم الأسباب التى جعلت بعض الناس فى الشارع يرون أن سيادة القانون تعنى أن يكون هو القانون وأوامره تنفذ وكلمته لا ترد، ومطالبه يجب أن تتحقق كاملة الآن وفورًا.. وهذه الروح تقود أيضًا إلى العنف والفوضى ولا تساعد على البناء والتقدم.. والجميع يتبادلون الاتهامات بينما جميع الأطراف الموجودة فى الساحة مسئولة عما يجرى من صدام واضطرابات، ومن الغريب أن الجميع يرددون أن «التوافق» هو الحل لحماية الدولة من الانهيار، وأن الانهيار الاقتصادى هو الشبح الذى يجب أن نتكاتف جميعًا لإبعاده وإنقاذ البلد منه، ومع ذلك فإنهم لا يسعون إلى التوافق والإنقاذ، والبعض منهم يقول كلاما يعلم أنه غير صحيح إما سعيا إلى إرضاء جهة ما وإما بسبب عدم الشعور بالمسئولية وإما لخداع الجماهير وإخفاء النوايا الحقيقية، ودون أن يراعوا أن الكلمة أمانة ومسئولية ولها تأثير سواء كانت كلمة حق أو كلمة باطل، وعلى حد تعبير أحد الحكماء فإن هؤلاء يزرعون «الخروع» ويريدون أن يجنوا العسل! وكان من الممكن أن يكون الحال غير الحال لو أنهم راعوا الظروف التى تمر بها البلاد والضغوط الخارجية والداخلية عليها وأخلصوا النية فى تغليب مصلحة الوطن فوق كل مصلحة أخرى.
***
وفى تشخيص الحالة الآن قال أستاذ العلوم السياسية د. معتز بالله عبد الفتاح: لا بد من وقف عنف المصريين ضد مصر، فهناك من يرى أن من حقه أن يلقى المولوتوف على الشرطة وعلى المبانى وكأن هذا يدخل فى إطار حقوق الإنسان، ولا يريد أن يدرك الفرق بين حق الاعتراض والتظاهر السلمى وبين ممارسة العنف والدخول فى الدائرة الخبيثة للعنف والعنف المضاد الذى يصيب الجميع بالخسارة، والعنف جمرة تحرق العقول.. وهذا حال أصبح يثير قلق العالم على مستقبل مصر مما دفع وزير خارجية ألمانيا إلى التحذير من أن عدم توحد الكلمة واستمرار التشرذم لن يؤدى إلى مستقبل جيد لمصر، وهذا ما سبق أن أعلنه المسئولون فى كثير من الدول.. ومع ذلك فإن البعض يفضل طريقة النعامة فى مواجهة الخطر بأن تدفن رأسها فى الرمال وكأن عدم رؤيتها للخطر يعنى عدم وجوده.
الذين يقولون إن الحكومة ليست على مستوى المرحلة معهم الحق، والذين يقولون إن النظام ارتكب أخطاء معهم حق، والذين يقولون إن أحزاب المعارضة لم تقدم أفكارًا وبدائل معهم حق، ففى الدول الديمقراطية تشكل أحزاب المعارضة لجانا لدراسة كل قضية وكل مشكلة فى المجتمع، وتقدم تصورًا متكاملًا لإصلاح وتغيير ما ترى أنه يحتاج إلى إصلاح أو تغيير، بينما أحزاب المعارضة عندنا ضعيفة لم يكتمل بناء هيكلها، ولم تبدأ فى إعداد كوادر مؤهلة وقادرة على العمل مع الجماهير وتتواصل مع المواطنين فى المدن والقرى.. والتليفزيون والتويتر والفيس بوك قد يكون لها تأثير عند بعض الناس، ولكنها لا تكفى وحدها لقيادة الجماهير.
***
يبقى الأمل فى أن يفيق العقلاء ويبدأوا من جديد بعد وقفة للمراجعة والنقد والذاتى فلا تزال هناك فرصة لذلك.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف