تحديات العولمة

هناك الآن مجموعة شركات تتعاون في انتاج سوبر كمبيوتر له قدرة علي الفهم يسمي C.Y.C من الانسيكولوبيديا‏(‏ دائرة المعارف‏),‏ يستطيع الاجابة علي أي سؤال اجابة مقنعة وعاقلة تدل علي الفهم‏,‏ كما يستطيع أن يستوعب المعلومات‏,‏ وان يفهم ما يقال له‏,‏ وقد وصل هذا السوبر كمبيوتر الي القدرة العقلية لطفل في السادسة أو السابعة‏,‏ بل ان هذا السوبر كمبيوتر يستطيع أن يقرأ الصحف‏,‏ وأن يرد علي الأسئلة‏,‏ وان يترجم من لغة الي أخري‏,‏ ويتوقع هانز مورافيك من مؤسسة كارنيجي ميلونز الامريكية أن الذكاء الصناعي سيتمكن من انتاج كمبيوتر تفوق قدرته المعرفية والحسابية قدرة العقل البشري‏..!‏

مثل هذه المعلومة التي لا يكاد يصدقها العقل لابد ان تنزل بضربة علي رؤوسنا لنفيق وندرك في أي عصر أصبحنا نعيش‏..‏ وأين سيكون مكاننا اليوم من هذا العالم‏,‏ واين سيكون مكاننا غدا أو بعد غد‏,‏ ولابد أن نشعر أن الوقت ليس لصالحنا‏,‏ وان علينا أن نحزم أمرنا‏,‏ ونعمل بجدية أكثر‏,‏ وبسرعة أكبر‏,‏ ونحشد كل قوانا لكي لا نلقي المصير الذي ينتظر دولا كثيرة‏,‏ لن يكون لها مكان في ظل العولمة لا مع الدول المتقدمة‏,‏ ولا مع الدول النامية‏,‏ ولكنها ستصبح من الدول الهامشية التي تقف مكانها والعالم يجري‏,‏ وتتحسر علي ماضيها وغيرها دائم الانشغال بالمستقبل‏.‏

وهذا القلق هو بالضبط ما أراد الدكتور حسين كامل بهاء الدين ان ينقله الينا‏,‏ بكتابه الوطنية في عالم بلا هوية‏,‏ واراد أن يكون هذا القلق دافعا لليقظة والانتباه‏,‏ ولتغيير شامل وكامل في كل مجالات حياتنا لنصبح مؤهلين لدخول العولمة ونحن قادرون علي الوقوف علي أقدامنا‏,‏ وقادرون علي رفع رؤوسنا‏,‏ وقادرون علي السير والمسايرة‏,‏ وقادرون علي أن نرفض أن يجرفنا تيار العولمة اذا تضافرت جهود الحكومة والمؤسسات الدستورية والجامعات ومراكز البحث العلمي ومؤسسات الثقافة والتعليم‏.‏

والدكتور حسين كامل بهاء الدين في هذا الكتاب لا يتحدث بوصفه وزيرا مسئولا‏,‏ ولكنه يتحدث بصفته مفكرا وباحثا له رؤية للعالم وللمستقبل‏,‏ ولديه مفهوم جديد لمعني الوطنية باعتبارها طوق النجاة من الغرق في بحار العولمة‏..‏ ومن حسن الحظ أن يكون المفكر صاحب هذه الرؤية التي تدرك حقائق الواقع وتستشرف المستقبل‏,‏ هو ذاته الوزير المسئول عن اعداد أجيال المصريين للحياة والتعامل مع عالم يصفه هو بأنه سيكون عالما بلا هوية‏,‏ وبذلك فهو يقبل التحدي‏,‏ ويتحمل مسئولية اعداد أجيال تحتفظ بالهوية الوطنية في هذا العالم الذي يسعي الي تفكيك الأوطان والقوميات‏,‏ واذابة الشخصية القومية‏,‏ واختراق العقول والقيم وخصوصيات الثقافة الوطنية‏.‏ وهذا ما يجعلنا نطمئن الي أن سياسة التعليم سوف تسير في الاتجاه الصحيح مادامت البوصلة الصحيحة قد وصلت الي يد من يمسك دفة التعليم والتربية‏.‏

ومن يقرأ هذا الكتاب سوف يصيبه الذهول حتما بعد الانتهاء من نصفه الأول الذي يحدثنا عن نماذج وصور من انجازات العلم والتكنولوجيا التي تحققت حتي الآن والتي سوف تتحقق في المدي القريب‏..‏ ويحذرنا من أن الانسان الذي استطاع في منتصف القرن الماضي ان يخترع القوة التي تستطيع أن تدمر الحياة علي سطح الأرض‏,‏ سيكون في امكانه في منتصف هذا القرن ان يكتشف‏,‏ وان يخلق اشكالا جديدة من الحياة‏,‏ وهذا الاكتشاف سيكون هو الاخطر علي البشرية‏..‏ علماء البيولوجيا استطاعوا اعادة تركيب مواد جينية بين الانسان والحيوان والنبات لتخليق أنواع جديدة من الكائنات لم يسبق وجودها علي ظهر الأرض‏..‏ في جامعة بنسلفانيا زرعوا جينات هرمون النمو الانساني في الشفرة الجينية لأجنة الفئران‏,‏ فاصبحت الفئران تنمو بضعف حجمها الطبيعي‏,‏ واستطاع العلماء ان يجمعوا خلايا الماعز وخلايا الخراف‏,‏ وزرعوها في رحم نعجة‏,‏ واستولدوا حيوانا جديدا برأس عنز وجسد خروف‏..‏ ومئات التجارب نجح فيها العلماء في دخول آفاق جديدة‏..‏ وخطيرة‏..‏ في الهندسة الوراثية‏.‏ وفي اطار مشروع هائل للخريطة الجينية للانسان يتكلف ثلاثة مليارات دولار توصل العلماء الي اكتشاف الجين الخاص بأمراض الصرع‏,‏ والسكر‏,‏ والسمنة‏,‏ والزهايمر‏,‏ واكتشفوا الجين الخاص باطالة العمر‏,‏ وبدأت الشركات في تسجيل هذه الجينات في اطار الملكية الفكرية‏,‏ لاستغلالها في انتاج أدوية ومركبات لعلاج أمراض مستعصية أو لاطالة عمر الانسان أو لانتاج نوعيات من البشر متفوقة في الذكاء والقدرات العقلية والجسمية‏..!‏ فاذا أضفنا الي ذلك الاكتشافات المذهلة التي تمت في الكيمياء علي يد أحمد زويل الفيمتوثانية ونتائجها الخطيرة في تطوير الاسلحة والأدوية‏,‏ الي اكتشاف مواد فائقة التوصيل ستساعد علي خفض هائل في سعر الطاقة الكهربائية‏,‏ واكتشاف وسائل جديدة تساعد علي تصنيع قطار يمكنه السير بسرع‏350‏ ميلا في الساعة‏.‏

نماذج كثيرة ومذهلة يحفل بها الكتاب‏,‏ ليس بقصد التسلية والابهار‏,‏ ولكن بقصد التنبيه الي طبيعة العصر الذي نعيش فيه والاحتمالات القادمة فيه والتي تفوق قدرة عقولنا علي التصديق‏..‏

وطبيعي بعد أن نطوف بكل هذه الآفاق أن نسأل‏:‏ ما العمل‏..‏؟ هل أمامنا طريق للخلاص من هذا الحصار أم أن العولمة باحكامها واسلحتها وجبروتها قدر مقدور علينا لا مهرب منه ولا مفر‏..‏؟

بحسه الوطني‏,‏ وبموضوعيته كأستاذ وعالم‏,‏ يطرح علينا الدكتور حسين كامل بهاء الدين طريق النجاة من مخاطر هذا العالم المخيف‏,‏ فيري أن مصر بتكوينها الجغرافي والبشري والتاريخي غير قابلة للتفكيك‏,‏ وانها قادرة علي الانفتاح علي العالم بلا انبهار ولا انكسار‏,‏ ولا ارتماء في احضان الغير‏,‏ وفيها مقومات التقدم العلمي‏,‏ وتنمية القدرات الذاتية بضوابط اخلاقية‏.‏

لا نستطيع أن ننكر أو نقاوم العولمة‏,‏ ولا نقدر علي رفضها‏,‏ أو التناطح معها‏,‏ ولن تفيدنا محاولات التقوقع والانكفاء علي الذات والاكتفاء بما لدينا‏,‏ لان أحدا لن يستطيع أن يغلق أبواب وطن علي أهله‏,‏ وستصبح أبواب كل الأوطان مفتوحة‏,‏ ولن تكون هناك حدود أو حواجز أمام حرية تنقل الأشخاص والأموال والسلع‏,‏ واذن فليس أمامنا إلا أن ندرك أبعاد ما ينتظرنا‏,‏ وما يجب علينا أن نقوم به‏,‏ وندخل المنافسة في ثورة الاتصالات وثورة المعلومات وبناء اقتصاد قادر علي فتح أسواق جديدة‏,‏ وبناء شكل جديد للمدرسة وللتعليم‏..‏ مدرسة المستقبل متصلة بالمجتمع وبقواعد الانتاج‏..‏ ومعلم جديد يتغير دوره من ملقن الي موجه‏,‏ ومن مالك الحقيقة المطلقة الي مرشد لتلاميذه لاكسابهم القدرة والبحث بأنفسهم عن المعرفة لانها بلا نهاية‏..‏ والقدرة علي حل المشاكل والتعامل مع الآخر‏..‏ ولاننا لا نملك وصفات جاهزة لمعالجة المواقف الجديدة التي لم نصادفها بعد فليس أمامنا إلا تزويد الجيل الجديد بمفاتيح المعرفة‏,‏ وأساليب البحث‏,‏ ومهارات الاتصال‏,‏ وندربهم علي العمل بروح الفريق‏,‏ ونرسخ فيهم قيم الولاء والانتماء والمسئولية والمشاركة ونعمق فيهم الهوية ونربطهم بالجذور.

ومادامت المدرسة هي نقطة البداية لبناء الانسان المصري القادر علي التعامل مع تحديات العولمة‏,‏ فان نقطة البداية في التغيير والتطوير في المدرسة تبدأ من المدرس‏..‏ نحتاج الي معلم جديد‏.‏ ونحتاج الي مناهج غير تقليدية مرتبطة بحاجات المجتمع الحقيقية‏,‏ ولابد ان تكون المناهج في اطار عالمي وبمعايير عالمية‏,‏ تراعي حق الجيل الجديد في الاختيار‏,‏ وتتميز بالمرونة والتنوع‏,‏ وتقدم رعاية خاصة للموهوبين باعتبارهم عملة دولية تنافسية وحاسمة في السباق الرهيب القادم‏.‏

ومن حسن حظنا أن تكون هذه هي رؤية المسئول عن اعداد الاجيال الجديدة‏,‏ مما يدعونا الي اعتبار هذا الكتاب رؤية فكرية وبرنامجا عمليا بل واعتباره عقدا بيننا وبين وزير التعليم نحاسبه علي ما يتحقق وما لا يتحقق منه‏,‏ ونساعده بكل ما نملك لكي يحققه كاملا‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف