اعترافات جامعية

لم يعد احد من المسئولين عن الجامعات المصرية يحاول انكار وجود ازمة في التعليم الجامعي هي نتيجة تراكم الخلل في النظام الجامعي ذاته ومرور سنوات من المكابرة‏,‏ او التجاهل‏,‏ او بمحاولات التجمل واظهار انجازات شكلية وسطحية لا تمس جوهر العملية التعليمية والبناء الجامعي‏.‏

ولم يعد احد من المسئولين يجادل في ان محاولات الترميم والاصلاح الجزئي لن تحقق الطموح القومي في النهضة العلمية والتكنولوجية والحضارية التي نسعي لتحقيقها‏,‏ والاجماع الآن بينهم علي انه لا بديل عن التغيير الشامل واعادة بناء كل شئ علي اسس جديدة‏,‏ علي الاقل لكي نتساوي مع د ول صغيرة كانت في اوضاع سيئة‏,‏ واستطاعت بناء جامعات عصرية اصبح معترفا بها من الجامعات العالمية‏.‏

ولقد تبلورت ارادة التغيير في المؤتمر القومي لتطوير التعليم العالي الذي عقد مؤخرا‏,‏ ودارت فيه حوارات صريحة كشفت عن وجود تيارات فكرية منحرفة‏,‏ عادت الي التسلل بين طلبة الجامعات وهم في سن خطيرة يمكن التأثير عليهم والتلاعب بعقولهم‏,‏ وقد عادت الي الظهور جماعات تفرض افكارها بالقوة علي الآخرين بدون اقناع او احترام‏,‏ ولم يخل الامر من وجود بعض اعضاء هيئات التدريس يتعاطفون مع هذه الاتجاهات‏,‏ وهذا هو الامر المثير للدهشة‏,‏ لانه لا يعقل ان يشارك في قيادة حركة التنوير عضو هيئة تدريس هو نفسه صاحب ثقافة ضحلة‏,‏ ويرفض الحوار‏,‏ ويصادر حرية الرأي‏,‏ ويشارك هذه الجماعات في تسميم جو التسامح الفكري بنزعتهم للتعصب‏,‏ والاصل ان الجامعة هي قلعة لحرية الفكر وتجديد وتنوير عقل الامة‏..‏ وقد امتدت الشكوي ايضا الي اتحادات الطلبة‏,‏ وهي التنظيمات الديمقراطية الشرعية التي يجب ان تقود النشاط الطلابي في الاتجاه الصحيح المستنير‏,‏ ولكنها ـ علي حد تعبير رئيس احدي الجامعات ـ اصبحت هياكل هشة وليست لها فاعلية او تأثير كبير علي جموع الطلاب‏,‏ مما يقتضي النظر في بحث اسباب وصولها الي هذه الحالة‏,‏ وبعث الحياة والحيوية فيها لتكون المحرك الرئيسي للانشطة البناءة التي تحصن شباب الجامعات من الفكر المنحرف‏,‏ وتحميهم من محاولات التسلل الماكرة‏,‏ وتساعدهم علي تكوين شخصية ايجابية متكاملة‏..‏ وكان هناك الكثير مما قيل عن الظواهر الغريبة عن مجتمعنا وقيمنا التي بدأت تنتشر‏..‏ ابتداء من الزواج العرفي بين الطلبة والطالبات‏,‏ الذي ارجع رئيس احدي الجامعات اسباب انتشاره الي اسباب اجتماعية واقتصادية واكتفي بالقول بان مسئوليته تتوقف عند حدود سور الجامعة‏,‏ واما ما يحدث عن طريق بعض الاماكن المشبوهة فلا شأن له بها‏..!‏

وان كان رئيس هذه الجامعة قد اضاف انه ليس في الجامعات عمل حقيقي لبناء شخصية الطالب‏..‏ وليس هناك اهتمام بتكوين العقل والثقافة وغرس القيم‏..‏ وليس هناك جهد كاف لتحصين شباب الجامعات ضد التيارات الفاسدة والفكر المنحرف‏,‏ وباختصار ليس هناك دور وقائي او علاجي للطلبة داخل جامعاتهم‏..‏ وهذا يرجع ـ كما قال عدد من رؤساء الجامعات الحاليين والسابقيين ـ الي ان الريادة قد اختفي دورها‏,‏ وليست هناك علاقة مباشرة بين الاساتذة والطلبة في أية صورة من الصور‏,‏ ولا يجد الطالب من يستعين به داخل الجامعة او يستشيره اذا واجه موقفا جديدا عليه او مشكلة من اي نوع‏,‏ ليس هناك استاذ يقوم بدور الاب او بدور الاستاذ‏,‏ وتحولت الريادة ـ كما قال رئيس جامعة كبري ـ الي دور شكلي‏,‏ ونتيجة لذلك ـ كما قال ـ اصبح الجو النفسي في الجامعات غير صحي‏,‏ والعلاقات داخلها غير سوية‏,‏ وقال بالحرف‏:‏ ان ما يحدث في الكافيتريات يعرفه الجميع‏,‏ وهو نتيجة طبيعية للعشوائيات التي انتشرت‏.‏

قد لا يكون في هذه الاعترافات جديد‏,‏ لان هذه الظواهر ـ واكثر منها ـ معروف ويتحدث عنها الجميع منذ سنوات‏,‏ ولكن الجديد هو نغمة الضيق التي اصبحت علي لسان الرؤوس الكبيرة المسئولة عن الجامعات‏...‏ الجديد انه لم يعد احد من الكبار يكذب‏,‏ او يتجمل‏,‏ وقد وصل الجميع الي اتفاق علي ان هذه هي الفرصة الاخيرة للمصارحة والتغيير الشامل‏...‏ اذ ليس من الممكن استمرار جوالفهلوة العلمية بسرقة الرسائل والكتب العلمية داخل حرم الجامعة‏,‏ وانتشار الدروس الخصوصية بالضغط والاكراه وظهور سماسرة للدروس وبيع الملخصات التي تأتي منها الامتحانات وفيها الاسئلة والاجابات النموذجية‏..‏

الجديد في المؤتمر القومي الكبير ان المتحدثين بكل هذه الصراحة هم انفسهم من قيادات الجامعات وكبار الاساتذة‏,‏ وهذه الرغبة في كشف المستور هي تعبير عن رغبة حقيقية في إعادة النظر في كل جوانب الحياة الجامعية‏,‏ ومواجهة النقائص والسلبيات بحسم‏,‏ نتيجة شعور عام بان كل تأجيل للتغيير هو مقبول بالتراجع والتخلف اكثر واكثر‏..‏ والتقارير الرسمية التي قدمت للمؤتمر تحدثت ايضا ودون حرج عن الخلل في منظومة التعليم العالي‏,‏ وعن تراجع القيم الجامعية والمعايير الاخلاقية‏,‏ وعن جمود هيكل الجامعات علي حالة منذ الستينيات دون تطوير‏,‏ وعن تضخم الهياكل الوظيفية لاعضاء هيئات التدريس والاداريين‏,‏ وعن عدم تفرغ الاساتذة للتعليم او البحث العلمي‏,‏ وعن تجمد المقررات حتي ان بعضها لم يتغير منذ ربع قرن‏,‏ وعن تخلف صور الامتحانات‏,‏ وعن سيطرة العقلية البيروقراطية و جمود النظم الادارية‏,‏ وعن استنزاف الجامعات الخاصة للكفاءات المتميزة في الجامعات الحكومية‏,‏ وعن عدم وجود فرص للتعامل مع العلوم الحديثة وتطبيقاتها‏,‏ وعن افتقاد الدراسات العليا العناية الواجبة لتكوين اجيال جادة من الباحثين والعلماء‏,‏وعن عدم وجود نظام مستقر ومستمر لاعداد وتأهيل وتدريب اعضاء هيئات التدريس وتجديد معلوماتهم‏.‏

وفي اعتقادي ان كل هذه الاعترافات هي البداية الصحيحة للتغيير‏..‏ هي التعبير عن المكاشفة والمصارحة‏..‏ وبعدها يأتي العمل في اتجاه التغيير الشامل‏..‏ وهو عمل ليس سهلا‏..‏ ولكنه ممكن اذا توافرت ارادة التغيير والقدرة عليه والجدية والاستمرارية علي طريقه‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف