تابع العدوان على غزة
بعدوانها الوحشى على غزة خسرت إسرائيل كثيرا من الأصوات التى كانت تتعاطف معها، ولم يخفف من الإدانة الدولية لجرائم الحرب التى ارتكبتها وقوف الولايات المتحدة لمنع إدانتها فى مجلس الأمن أو صدور قرار اتهام للمسئولين عن هذه الجرائم لمحاكمتهم أمام محكمة الجنايات الدولية أو أمام محكمة دولية خاصة، وإن كانت محاكم بلجيكا قد قبلت الدعوى المرفوعة أمامها لمحاكمتهم وفقا للقانون البلجيكى، وهذا فى حد ذاته دليل على رفض كثير من دول العالم للسياسة العدوانية الإسرائيلية. أما الإدانة من الرأى العام العالمى، ومن الشخصيات السياسية ومن أصحاب الضمير فهى معلنة تصفع محاولات إخفاء معالم الجريمة؛ كما حدث مع الجرائم التى ارتكبتها إسرائيل من قبل.
هذه المرة وقفت سيدة لها مكانتها الدولية هى ميريد ماجير الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 1976، لتعلن فى مؤتمر صحفى اتهامها للسلطات الإسرائيلية بممارسة سياسة (التطهير العرقى) وخاصة فى القدس الشرقية، وقالت إن البلدية الإسرائيلية قررت تدمير عشرات البيوت العربية.
ولم يستطع ضمير هذه السيدة داعية السلام الأيرلندية الشمالية السكوت عن الحق لتكون مثل غيرها شيطانا أخرس، فقالت فى المؤتمر الصحفى إن إسرائيل تنتهك القوانين الدولية، وحقوق الإنسان، وكرامة الشعب الفلسطينى، أى أنها دولة مارقة خارجة على الشرعية الدولية، أو بالأصح إن سلوكها ليس سلوك دول!
إسرائيل قررت تنفيذ أكبر عملية تشريد فى القدس لتنفيذ سياستها لتهويد المدينة المقدسة التى يعتبرها العالم العربى والإسلامى عاصمة للدولة الفلسطينية وتقر معظم الدول ذلك. سوف تدمر إسرائيل بيوت 1500 فلسطينى. بخلاف ما سبق أن دمرته فى السنوات الماضية منذ احتلت الجزء الشرقى من المدينة فى يونيو 1967.
وما يحدث فى القدس هو تكرار لما حدث فى غزة على نطاق واسع لم يسبق له مثيل، حتى أن إسرائيل ذاتها لم تستطع إخفاء هذه الحقيقة واضطرت إلى الاعتراف أخيرا بأن التدمير الهائل للبيوت فى قطاع غزة خلال عدوانها الذى أطلقت عليه (عملية الرصاص المصبوب) يصعب تبريره قضائيا، وراديو إسرائيل هو الذى أعلن أن التحقيقات التى أجرتها وزارة الدفاع الإسرائيلية توصلت إلى نتيجة أنه يصعب تبرير تدمير البيوت على نطاق واسع بأوامر من القادة العسكريين، والادعاء بأن ذلك كان ضروريا لأن وجود هذه البيوت كان يمثل تهديدا محتملا للقوات الإسرائيلية.
ومع ذلك لم يمسك أحد بهذا الاعتراف الرسمى ليكون من أدلة الثبوت أمام المحاكم.
***
واحد من أكبر الأطباء فى النرويج أعلن أنه تأكد من فحص أعداد من الضحايا الفلسطينيين أن إسرائيل كانت تستخدم قنابل تؤدى إلى الإصابة بالسرطان خلال عدوانها على غزة، وإن هذه القنابل تسمى (الداين) وهى من جيل جديد من القنابل التى تحتوى على اليورانيوم. وقال إنه تطوع لإجراء عشرات العمليات الجراحية للضحايا الفلسطينيين ووجد أن هذه القنابل أدت إلى الإصابة بالسرطان حول مكان الإصابة والموت بعد فترة بين 6 و 8 شهور.
وقال الطبيب النرويجى أيضا إن المجتمع الدولى يجب ألا يثق فى إسرائيل وادعاءاتها بأنها لم تستخدم هذه القنابل المحرمة دوليا.. ولم يكن هذا الطبيب هو الوحيد الذى أكد هذه الجريمة، فقد أكدها قبله كثيرون من منظمات دولية وحقوقية كان آخرهم مارك جارلاسكو ممثل منظمة هيومان رايتس ووتش الذى أعلن أن إسرائيل كانت تلقى قنابل الفوسفور الأبيض فى أماكن مزدحمة بالسكان وأنها اعتادت انتهاك اتفاقية جنيف الخاصة بحقوق الإنسان وحماية المدنيين وقت الحرب.
وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين (الأونروا) أعلنت هى الأخرى أن إسرائيل دمرت بالمدفعية أجزاء من مدرسة للبنات تابعة للوكالة وتسببت فى مقتل 43 وإصابة أكثر من 100 بعد أن لجأ بعض المدنيين الفلسطينيين إلى هذه المدرسة فرارا من الغارات وقذائف المدافع الإسرائيلية، حيث ظنوا أن هذه المدرسة مادامت تابعة للأمم المتحدة فسوف تكون ملاذا آمنا لهم يحميهم من العدوان.. ووصل التدمير إلى مبانى الجامعة الإسلامية وإلى عدة مبان حكومية، و23 مدرسة، ولم تخجل إسرائيل من ذلك وأعلنت أنها دمرت هذه المبانى بطريق (الخطأ)! بينما أعلنت المنظمات الدولية أنها جرائم حرب.
الرئيس الأمريكى باراك أوباما قال بنفسه إن الوضع فى الشرق الأوسط لا يطاق!! فإذا كان رئيس الولايات المتحدة يقول ذلك وهو يرأس الدولة التى تعطى لإسرائيل التأييد الدائم لكل ما تفعله، وتقدم لها القنابل والصواريخ المحرمة دوليا، إذا كان رئيس هذه الدولة العظمى يقول ذلك، فماذا يقول الآخرون؟
إن منظمة هيومان رايتس ووتش أثبتت فى تقريرها أن إسرائيل أطلقت قذائف الفوسفور الأبيض على مناطق ذات كثافة سكانية عالية فى قطاع غزة واستمرت حتى الأيام الأخيرة من العدوان فى انتهاك قوانين الحرب وأن قادة الجيش الاسرائيلى يتحملون المسئولية عن ذلك، وطلبت المنظمة- وهى أكبر منظمة لحقوق الإنسان فى الولايات المتحدة وفى العالم – طلبت من الولايات المتحدة التى أمدت إسرائيل بهذه القذائف المحرمة بإجراء تحقيق خاص لأن القانون الدولى يسمح باستخدام الفوسفور الأبيض فى المناطق المفتوحة ولكن إسرائيل كانت تطلقها على أحياء مزدحمة بالسكان فقتلت وأصابت أعدادا كبيرة من المدنيين ودمرت العديد من البيوت والمبانى الحكومية، والمدارس، وسوق، ومستشفى، ومخزن المساعدات الإنسانية التابع للأمم المتحدة، وعثر باحثو المنظمة على فوارغ قذائف الفوسفور الأبيض، وعلى كميات كبيرة من قطع اللباد المحترق تحتوى على هذا الفسفور فى شوارع غزة وأسطح المنازل وأفنية البيوت والمدارس.
***
النتيجة: القتلى من الفلسطينيين 1285 بينهم 280 وهم المسجلون فى المستشفيات.. ووفقا لتقرير برنامج غزة لصحة المجتمع فإن 350 ألف طفل فى غزة يعانون من اضطرابات نفسية وسلوكية نتيجة للتعرض للرعب ولفقدان الأهل والزملاء. وفى التقرير نموذج لحالة طفل قتل والده وثلاثة من أشقائه الصبية، وشقيقته الرضيعة، ومثل هذه الحـالات أدت بأطفال غزة إلى فقدان الشعور بالأمان وترتب على ذلك مشكلات ذهنية تدوم مدى الحياة ولا يمكن محو هذه الذكريات المؤلمة عن الغارات والقذف والقتـل والهـدم.. الخ.
***
تقرير صدر أخيرا عن مكتب تنسيق الشئون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا) يذكر أن أربعة آلاف منزل تم تدميرها تدميرا كاملا و17 ألف منزل أخرى دمرت بشكل جزئى فى عدوان إسرائيل على غزة، وأن القطاع أصبح يعانى من نقص المياه والأدوية والصرف الصحى، أما منظمة اليونسيف واللجنة الدولية للصليب الأحمر والوكالات الدولية الأخرى فقد أطلقت تحذيرا من وجود قنابل وألغام وقذائف لم تنفجر بعد من مخلفات الحرب، وأن التلوث يمثل تهديدا كبيرا لسكان غزة، وذكرت هذه الوكالات أن فريقا متخصصا فى الألغام وصل إلى غزة لبحث حجم مشكلة مخلفات الحرب التى لم تنفجر والتى تعوق وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين.
التقديرات الأولية تدل على أن خسائر القطاع الزراعى نتيجة العدوان على غزة تزيد على 100 مليون دولار، وبعض المزارعين دمرت مزارعهم وبيوتهم وقتل أفراد أسرهم بالكامل، أما مزارع الحيوانات والدواجن فإن الخسائر فيها بلغت 70%.
***
إسرائيل مسئولة عن جرائم الحرب التى ارتكبتها، فاتفاقيات جنيف الموقعة عام 1949 وهى الأساس للقانون الدولى، تنص على حماية المدنيين أثناء الحروب. وهذه الاتفاقية وقعت عليها 199 دولة، وتحرم نفى أو ترحيل المواطنين تحت الاحتلال خارج أراضيهم، ومسئولية الاحتلال عن حماية المنشآت المدنية والمدارس وأماكن رعاية الأطفال، وتحرم تدمير أى ممتلكات خاصة بالمدنيين أو بالسلطات العامة أو الجمعيات الأهلية، ومسئولية دولة الاحتلال عن تزويد السكان بالمواد الغذائية والطبية.. ولكن إسرائيل هى الدولة الوحيدة التى لا تحترم ولا تلتزم باتفاقيات جنيف ولا بالقانون الدولى.
وعلى الجامعة العربية أن تقوم بواجبها وتتحمل مسئولياتها مع منظمات حقوق الإنسان العربية والعالمية ونقابات المحامين.. وستكون هيئات ومنظمات عالمية كثيرة مستعدة للانضمام إلى أى عمل لمحاكمة مجرمى الحرب.. وهذا هو الموضوع الذى يجب ألا نتهاون فيه.