بوش .. هل جاء وقت الحساب ؟


من الغريب أن المسيرات التى خرجت فى أمريكا فى الذكرى السادسة لغزو العراق كانت أكثر. كما كانت الحشود فيها أكبر من المسيرات التى خرجت فى بعض البلاد العربية، وعشرات الآلاف من الأمريكيين خرجوا فى مدن عديدة مطالبين بإنهاء الحرب فى العراق وانسحاب القوات الأمريكية، وبمحاكمة الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش.. كانت أصوات الأمريكيين الغاضبين تدوى فى واشنطن، وفى سان فرانسيسكو، ولوس أنجلوس، وشيكاغو.. وغيرها.. وغيرها.. وفى واشنطن تجمعوا أمام شركات الدفاع المتعاقدة مع الجيش الأمريكى فى العراق مثل (لوكهيد) و(وكيه. بى. آر) وهتفوا ضد هذه الشركات التى حققت أرباحا بمئات الملايين من الدولارات على حساب أرواح المدنيين العراقيين والجنود الأمريكيين.. وتجمع أنصار 1000 منظمة من المنظمات الأهلية أمام وزارة الدفاع (البنتاجون) ليهتفوا ضد بوش، ونائبه ديك تشينى، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، وزبانية الحرب الذين روجوا الأكاذيب واستباحوا سفك الدماء. لم يكن الغضب فى أمريكا غضبا شعبيا فقط، بل كان غضبا رسميا أيضا، وفى أعلى قمة السلطة، فقد أعلن الرئيس باراك أوباما أن نائب الرئيس السابق ديك تشينى – أكبر صقور الحرب على العراق – جلب على الولايات المتحدة الاحتقار بدلا من أن يجلب لها الأمن، وقال أيضا أن معسكر الاعتقال الأمريكى فى جوانتانامو كان دعاية كبيرة أثارت المشاعر المعادية لأمريكا.. أما المتحدث باسم البيت الأبيض فقد وصف ديك تشينى بأنه واحد من (جماعة تآمرية)! الحرب العدوانية التى شنها بوش على العراق كانت قائمة على مجموعة من الأكاذيب.. فقد أعلن أمام الكونجرس أن العراق لديه أسلحة دمار شامل، وقال إن صدام يهدد الأمن الأمريكى وأن بينه وبين تنظيم القاعدة تنسيقا لتنفيذ عمليات إرهابية مثل عملية تدمير برجى مركز التجارة الدولية، وقال إن العراق حصل على كميات من اليورانيوم من النيجر تكفى لصنع قنبلة ذرية، ثم تبين أن هذه كلها أكاذيب ليس لها أساس، اتضح أيضا أن بوش اتخذ قرار غزو العراق منذ الأيام الأولى لتوليه الحكم وأنه أعلن ذلك فى اجتماع لمجلس الأمن القومى وذلك قبل حادث 11 سبتمبر الذى اتخذه حجة لإعلان ما اسماه الحرب على الإرهاب. *** وفشلت الحرب فى العراق كما فشلت الحرب على أفغانستان، ولم يتحقق إلا إضعاف مكانة أمريكا وهيبتها فى العالم وخصوصا فى العالم العربى، وظهر للعالم أن أمريكا التى تدعى أنها النصير لحرية الشعوب وللديمقراطية على العكس من ذلك، أصبحت قوة عمياء تهدد الاستقرار والسلام بسياساتها العدوانية، وباختصار فإن بوش شوه صورة أمريكا فى العالم صورة أرض الأحلام التى أسهم فى بنائها رؤساء محترمون سبقوه.. جعلوا صورة أمريكا تبدو على أنها القوة التى تحمل إلى العالم رسالة الحرية والديمقراطية.. وهذا ما عبرّ عنه الرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر فى كتابه الأخير (قيمنا المهددة.. أزمة الأخلاق فى أمريكا) وجه فيه قائمة اتهامات إلى بوش وانتقد فيه بشدة سياساته وقال إنها سياسات تتعارض مع القيم الأمريكية، واتهم بوش بأنه هدم مبدأ السلام وهو المبدأ الأساسى فى منظومة القيم الأمريكية وجعل مكانه الحرب والهجوم والغزو وقصف البلاد بالقنابل.. واتهم بوش أيضا بأنه أهدر مبدأ حقوق الإنسان بعد عقود من احترام أمريكا لمواثيق جنيف، ومارس الضغط على أعضاء مجلس الشيوخ مما جعلهم يصدّقون بالموافقة على ممارسة التعذيب فى السجون فى جوانتانامو وفى العديد من السجون الأخرى كما لم يكن من المتصور أن يحدث ذلك وبتعليمات من الإدارة الأمريكية، ولن يغفر العالم ما حدث فى سجن جوانتانامو وسجن أبو غريب من انتهاكات بشعة لاتفاقيات جنيف. *** بوش هو المسئول – سياسيا – عن الدمار والدماء فى العراق.. مسئول عن مقتل ما يقرب من مليون إنسان.. وعن وجود 900 ألف طفل يتيم فى بغداد وحدها وفقا لما أعلنته رئيسة لجنة المرأة والطفل فى مجلس محافظة بغداد.. ومسئول عن تشريد مليونى عراقى فروا من بيوتهم إلى أنحاء مختلفة داخل البلاد هربا من القصف والقتل العشوائى، وخروج مليون عراقى من بلدهم ليعيشوا لاجئين. ومسئول عن تدمير المرافق والبنية الأساسية فى المدن العراقية.. وعن فقدان العراقيين للأمن ولمصدر الرزق.. ومسئول عن نهب بترول العراق والآثار النادرة لحضارته القديمة ولم تستطع المنظمات الإنسانية أن تقدم خدماتها لضحايا العدوان بسبب الغارات بالصواريخ والقصف المستمر وانتشار القناصة الأمريكيين والمرتزقة من عملاء شركة بلاك ووتر الذين قتلوا العراقيين بدم بارد دون أن يخضعوا للمحاسبة. قائمة جرائم الحرب الأمريكية لا تقل عن الجرائم التى حوكم عليها رئيس الصرب السابق وغيره أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ *** لذلك ارتفعت أصوات فى العالم العربى وفى منظمات حقوق الإنسان فى بعض الدول الأوربية تطالب بإجراء تحقيق دولى مستقل عن جرائم الحرب التى ارتكبت فى العراق خلال الغزو وبعده، وبعض هذه الجرائم مسجل بالصوت والصورة ومنشور فى تقارير صحفية فى صحف الولايات المتحدة ذاتها، بل فى تقارير رسمية تدين بوش شخصيا وقيادات البيت الأبيض.. بل لقد اعترف بوش نفسه فى خطاب تليفزيوني ألقاه يوم 11 يناير 2007 بارتكاب أخطاء فى العراق منذ الغزو وحتى (الآن).. وأعلن أنه يتحمل المسئولية عن الأخطاء التى وقعت.. ولم يعلن عن وقف المذابح الأمريكية والجرائم التى اعتبرها مجرد أخطاء، بل أعلن على العكس أن أعمال العنف القاتلة ستستمر وقال دون خجل: (علينا أن نتوقع المزيد من الخسائر العراقية والأمريكية)! وكشفت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية فى أغسطس 2005 عن فضيحة أخرى، أن الرئيس بوش صدق على تشكيل وحدة من المخابرات الأمريكية قبل غزو العراق، تسلل أفرادها إلى داخل العراق سرا وقاموا بتجنيد وتدريب مجموعة من العراقيين لإثارة التمرد والقيام بأعمال التخريب، وأطلقت المخابرات على هذه الوحدة اسم العقارب (سكوربيونس) وأنفقت عليها ملايين الدولارات وسلّحتها بالأسلحة والمفرقعات الحديثة لدرجة أنها زودتها بطائرات هليكوبتر.. وقامت هذه الوحدة بأعمال تخريب قبل الغزو بدأت بقطع متكرر للتيار الكهربائى وإثارة جو من الاضطرابات وإشعال الحرائق، وبعد سقوط بغداد استخدمت المخابرات الأمريكية هذه الوحدة لاختراق صفوف المقاومة، والمساعدة فى تعذيب واستجواب المعتقلين العراقيين والقيام بأعمال وصفها مسئول فى المخابرات الأمريكية بأنها عمليات قذرة، وطبقا للوثائق التى حصلت عليها صحيفة واشنطن بوست الأمريكية فإن عناصر هذه الوحدة كانت تقوم بعمليات شغب وترويع ضد العراقيين فى مدن بغداد والفلوجة والقائم وغيرها من المدن العراقية. هذه أيضا جرائم يجب ألا يفلت مرتكبوها من الحساب وعلى رأسهم بوش الذى سمح وصدّق على تشكيل هذه المجموعة؟ *** الجنرال ويزلى كلارك القائد السابق لقوات حلف الأطلنطى كتب مقالا فى عام 2006 قال فيه إن بوش وإدارته من المحافظين الجدد قدموا مزاعم وتبريرات لغزو العراق اتضح أنها عارية عن الصحة، وأن عملية غزو العراق تحولت إلى مأزق استنزاف دماء مئات من الجنود الأمريكيين (ولم يذكر مئات الآلاف من القتلى العراقيين) واستنزاف مليارات الدولارات وتسببت فى توتر علاقات أمريكا مع حلفائها وتشويه سمعتها فى العالم ودفعت المتطوعين فى الجيش الأمريكى إلى حافة الانهيار، وتركت القوات الأمريكية فى بلد معاد تتخبط فى استراتيجية غير واضحة وبدون حماية، ومن أجل هدف خاطئ، أدى إلى مقاومة الشعوب العربية للسياسة الأمريكية ولأسلوبها فى فرض النموذج الديمقراطى الأمريكى لخدمة أهدافها، وختم الجنرال ويزلى كلارك مقاله بقوله: فلندع التلفيق السياسى جانيا! إذا كانت هذه هى شهادة القائد الأمريكى الرفيع المستوى، فماذا نقول نحن؟ *** الرئيس أوباما رفض محاكمة بوش، ولكن الأصوات المطالبة بمحاكمته تتزايد فى أمريكا وخارجها يوما بعد يوم ويبدو أنها لن تهدأ، وإن كان البعض يرى أن محاكمة بوش غير ممكنة، فإن الأغلبية ترى أن محاكمته ليست مستحيلة، خاصة أن جرائم الحرب والكذب على الشعب وعلى العالم وتزوير وثائق المخابرات، والسماح بالتعذيب والاعتقال العشوائى لسنوات دون محاكمة فى معسكرات اعتقال لا تقل بشاعة عن معسكرات النازى، بالإضافة إلى الجرائم التى ارتكبتها إدارته بتعليمات مباشرة منه وتمثل اعتداء على الشعب الأمريكى أيضا مثل التنصت على المحادثات التليفونية، والرقابة على الرسائل، والسماح بدخول البيوت وتفتيشها فى غياب أصحابها. وتجنيد مئات من سائقى التاكسى وموزعى البريد والمحصلين الذين يدخلون البيوت للتجسس على المواطنين الأمريكيين! السيناتور باتريك ليهى رئيس اللجنة القضائية فى مجلس الشيوخ دعا إلى إنشاء لجنة لبحث الانتهاكات التى ارتكبتها إدارة بوش.. ومجموعة من أساتذة وخبراء القانون الدولى فى جامعة هارفارد بدأت فى إعداد ملف لجمع الوقائع والوثائق عن انتهاكات القانون الدولى التى ارتكبتها إدارة بوش تستوجب المحاكمة.. والبروفيسور دانين كرين الذى أعد ملف إحالة رئيس ليبريا السابق (تشارلز تايلور) وحوكم بمقتضاه أمام المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى أعلن منذ أيام أن المبدأ الذى صدر بمقتضاه الأمر بالقبض على الرئيس السودانى عمر البشير يمكن أن يطبق على الرئيس بوش. أصوات كثيرة فى أمريكا تطالب بمحاكمة بوش.. أين أصوات منظمات القانون الدولى وحقوق الإنسان فى العالم العربى والإسلامى؟ وهل يمكن أن تمر الجريمة بلا حساب؟!


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف