سنة صعبة.. وبعدها تنفرج الأزمة!
يوما بعد يوم تتضح حقيقة الأزمة الاقتصادية العالمية، ويضطر المسئولون فى الدول الكبرى والصغرى إلى مصارحة الشعوب بحجمها الحقيقى وبآثارها المتوقعة، لكى يتحملوا مصاعب الأيام القادمة، ويتعاونوا مع حكوماتهم على اجتيازها مع ما تحمله من آلام. الحكومة الأمريكية صارحت الشعب بأن انكماش الناتج المحلى الإجمالى هذا العام هو الأسوأ منذ أكثر من ربع قرن. الحكومة البريطانية أعلنت عن خسائر هائلة فى المؤسسات المالية والمصرفية والشركات الكبرى آخرها خسائر مجموعة (لويدز) المصرفية التى بلغت 10 مليارات جنيه استرلينى وخسائر أخرى لنفس المجموعة عن أصول محفوفة بالمخاطر تبلغ 250 مليار جنيه استرلينى. والحكومة اليابانية أعلنت أن الإنتاج الصناعى اليابانى سجل انخفاضا قياسيا بلغ 10% وأن الطلب على السيارات فى انهيار مستمر مما أدى إلى انخفاض إنتاج السيارات بنسبة 41%. كما انخفض إنتاج السيارات فى الولايات المتحدة بنسبة 38%.
وأعلنت المفوضية الأوروبية أن معدل البطالة فى دول الاتحاد الأوروبى ارتفع إلى أعلى مستوى حتى أن حالة الانكماش الاقتصادى تسببت فى فقدان أكثر من 250 ألف وظيفة فى شهر واحد.. ووصلت الأزمة إلى الصحافة وآخرها مجموعة روكى ماونتين الأخبارية الأمريكية التى تملك أقدم الصحف فى ولاية كولورادو فقد أعلنت أن خسائرها بلغت 16 مليون دولار وأنها أوقفت صدور صحيفتها. ثلاث دول كبرى فى أوروبا هى فرنسا وأسبانيا واليونان تجاوز عجز الميزانية فيها الحد الأقصى الذى كان الاتحاد الأوروبى يحدده ويفرض عقوبات تأديبية على الدول التى تتجاوزه، وتتوقع هذه الدول الثلاث، كما تتوقع بقية دول أوروبا زيادة أكبر للعجز فى الميزانية، والولايات المتحدة أيضاً تتوقع زيادة العجز فى ميزانيتها هى الأخرى أكثر من العجز الكبير الذى تعانى منه الآن.. وأعلنت حكومة أيرلندا أنها فى موقف اقتصادى صعب.. وأعلن الرئيس الصينى أن الأزمة العالمية لن ينجو منها أحد وأنها سوف تزداد، وستضرب الدول النامية بقوة وسيزداد تأثيرها عمقا فى جميع الدول.. والحكومة الألمانية أعلنت عن قلقها بسبب تزايد التضخم فى الأجل الطويل.. وهبطت أسواق المال فى دول آسيا وأوروبا وأمريكا هبوطا غير مسبوق.. وأفلست شركات، وشركات أخرى فى طريقها إلى الإفلاس.
***
هكذا يعيش العالم أزمة هى الأكبر والأخطر من كل الأزمات السابقة، ولم تنج منها دولة كبرى أو صغرى.. الكل فى الهم سواء. إذن فلسنا وحدنا الذين نعانى من الأزمة وتداعياتها.. التضخم.. البطالة.. إفلاس بعض الشركات.. ارتفاع الأسعار لبعض السلع وانخفاض أسعار سلع أخرى.. عدم استقرار الأسواق.. وزير التنمية الاقتصادية د.عثمان محمد عثمان أعلن أن موجة الأسعار أخذت فى الارتفاع بعد أن كانت هناك توقعات بانخفاضها التدريجى وأرجع هذا الارتفاع غير الطبيعى إلى استغلال التجار ولا علاقة له بالأسعار العالمية أو بسعر الصرف كما يدعى البعض، وقال الوزير إننا إذا لم نتمكن من مواصلة الزيادة فى النمو الاقتصادى فإن أزمة البطالة ستكون أكثر حدة فى السنوات القادمة عما هى عليه الآن.
***
تقرير وزير المالية د. يوسف بطرس غالى على العكس من تقرير وزير التنمية الاقتصادية يدعو للاطمئنان، ففيه أرقام عن استقرار نسبة العجز فى الموازنة إلى الناتج المحلى، وارتفاع نسبة العجز الكلى بالموازنة بشكل طفيف لم يتجاوز واحدا فى الألف، مع ارتفاع إجمالى الإيرادات العامة والمنح بنسبة 59% وصلت إلى 147 مليار جنيه تمثل 14.6% من الناتج المحلى.. الإيرادات غير الضريبية ارتفعت ارتفاعا كبيرا وصل إلى 102% وقيمتها 66 مليار جنيه، والإيرادات الضريبية ارتفعت أيضاً بنسبة 36% لتسجل 81 مليار جنيه، وزادت ضرائب المبيعات 42% لتسجل 35 مليار جنيه، وحصيلة الجمارك ارتفعت 23% لتسجل 8.3 مليار جنيه على الرغم من التخفيضات الجمركية الأخيرة.. ولكن زادت مصروفات الدعم بنسبة 74% لتصل إلى 58 مليار جنيه، وزاد الإنفاق على المزايا الاجتماعية ليصل إلى 16.8 مليار جنيه، وراتفعت أجور وتسويات العاملين بالدولة بنسبة 21% لتصل إلى 39مليار جنيه، وكذلك ارتفعت فوائد القروض 18% لتبلغ 28 مليار جنيه.. وفى أرقام وزير المالية أن معدل النمو الحقيقى انخفض ليصل إلى 5.8% مقابل 6.5% خلال الربع الأول من العام المالى الحالى بسبب تراجع الاستثمارات.. بينما أعلن وزير الاستثمار أن معدل النمو 4.1%.
***
بصرف النظر عن اختلاف الأرقام التى يعلنها الوزراء.. وبصرف النظر عن رؤية كل منهم لحجم الأزمة.. لا بد من الأرقام، والقليل منها يكفى لكى نلمس حجم الأزمة على العالم وعلينا، وكالعادة فإن نصف الكوب الملئ يبشرنا به وزير الاستثمار الدكتور محمود محيى الدين.. يقول إن هذه الأزمة الاقتصادية الكبرى التى يعانى منها العالم أشد العناء ستنتهى بعد حين كسابقتها، ولكن سيدفع الثمن بشر لم يتسببوا فيها، ولم يسمعوا عن بنك «ليمان براذرز» إلا بعد سقوطه، ولم يتعاملوا أبداً مع أصول مالية، ولم ينتهكوا قواعد الإشراف والرقابة المالية، ولم يدلوا فى تجارة الأوراق المالية بخلط الغث منها بالثمين، وهكذا حال الأزمات والكوارث يشترك فى تحمل تبعاتها البرئ مع المذنب، والفقير مع الغنى.
وحتى الآن ليس هناك اتفاق بين دول العالم على أساليب مواجهة الأزمة، فالولايات المتحدة ودول أوروبا تواجه الأزمة بشراء أسهم البنوك والشركات المهددة بالإفلاس وتقدم لها الدعم المالى، حتى أن إدارة الرئيس أوباما خصصت منذ أيام تريليونا و200 مليار دولار إضافية من الاحتياطى الفيدرالى لشراء أسهم وسندات للرهن العقارى على أن يسهم ذلك فى انعاش الاقتصاد الأمريكى، وأكثر من ذلك فقد تقرر طبع المزيد من الدولارات لزيادة السيولة فى السوق، وفى هذا اعتراف رسمى بأن الأزمة تفاقمت بأكثر من التوقعات، وقبل ذلك تم تخفيض سعر الفائدة إلى الصفر، بينما رفضت الحكومة الفرنسية تقديم المزيد من الأموال لإنقاذ الشركات والبنوك بعد أن تبين أن المليارات التى قدمتها الحكومة فى فبراير الماضى ليست كافية. بريطانيا لجأت إلى تقديم مليارات الجنيهات الاسترلينية وطبع أوراق بنكنوت لزيادة حجم السيولة.. وحصلت دول شرق ووسط أوروبا على 31 مليار دولار من بنوك التنمية العالمية لمساعدة البنوك والشركات المتعثرة بعد أن أعلن رئيس البنك الدولى أن الأزمة التى تمر بها هذه الدول تتحول سريعا إلى «أزمة إنسانية» وأنها تحتاج إلى 120 مليار دولار لإعادة الحياة إلى مصارفها.
***
كيف يمكن الخروج من هذه الأزمة التى وصفها قادة اوروبا وامريكا بأنها «كارثة»؟ رئيس البنك الدولى أجاب على هذا السؤال بأن هذه الأزمة ليست مقصورة على منطقة معينة، ولكنها أزمة عالمية، ولذلك فإنها تحتاج إلى حل عالمى تساهم فيه الدول الكبرى فى دعم الدول النامية.
وعندما خصصت الحكومة 15 مليار جنيه لتوفير السيولة فى السوق وحماية العمال من البطالة إذا توقفت المصانع التى يعملون فيها.. واسقطت نصف ديون المزارعين و40 مليون جنيه من ديون أبناء سيناء، واعتمدت 350 مليون جنيه للتعاقد مع 100 ألف معلم لسد العجز فى المدرسينن ولتخفيف حدة البطالة بعد أن تسببت الأزمة فى إضافة 43 ألف عاطل جديد.. وبزيادة الإنفاق الحكومى على مشروعات ينفذها المقاولون سوف تزيد فرص العمالة وتخف حدة الكساد فى السوق، وخصصت الحكومة 3 مليارات و500 مليون جنيه لتشجيع المنتجين للمحافظة على مستوى الإنتاج والصادرات وزيادة حوافز التصدير لكى يحافظ القطاع الخاص على مستوى العمالة، وطرحت الحكومة أذون خزانة بقيمة 9 مليارات جنيه لتغطية عجز الموازنة، وتحتاج إلى 25 مليار جنيه أخرى خلال الشهور الثلاثة القادمة.
الدكتور محمود محيى الدين وزير الاستثمار له رأى فى سياسة ضخ الأموال لإنقاذ الشركات المتعثرة، ملخصه أن هناك مؤسسات مالية لا تستحق الإنقاذ إذا لم تتبع قواعد صارمة للانضباط والمحاسبة والرقابة، وإلا فسوف تصبح - حتى بعد انتهاء الأزمة - أشبه بالبط الكسيح، كما كانت المؤسسات الاقتصادية فى الاتحاد السوفيتى قبل سقوطه، وفى نفس الوقت فإن السخاء فى نثر الأموال لإنقاذ المؤسسات التى تستحق والمؤسسات التى لا تستحق الإنقاذ يفتح الباب أمام استسهال الخطأ والقصور فى الإدارة وإلى تكرار مسببات الأزمة، ولذلك من الخطأ - فى رأيه - أن تتحمل الدولة دائما التكاليف الباهظة لسوء الإدارة وضعف الرقابة وغياب الحساب، والمفروض أن يتم حساب من تسبب فى الأزمة قبل تقديم الدعم، وإلا سيكون فى حل الأزمة بأسلوب منع المعونات بلا حساب بذور أزمات أخرى فى المستقبل.. كلام معقول جداً.
***
ويبشرنا الدكتور محمود محيى الدين أن المستثمرين الأجانب سوف يفتتحون مشروعات جديدة خاصة فى تجارة التجزئة والكيماويات ومكونات السيارات.. ويدعونا إلى التفاؤل بتأكيده على أن مصر أقل تأثيرا بالأزمة المالية العالمية، وأنها قادرة على تجاوز آثارها، لأن برنامج الإصلاح المالى مستمر وتساند الحكومة المؤسسات المالية فى إطار برنامج الإصلاح الذى ستنتهى مرحلته الثانية سنة 2012، وبهذا البرنامج يتم تطوير البنوك وزيادة رؤوس أموالها، والحكومة مستمرة فى تدعيم الجانب الإنتاجى من الاقتصاد الوطنى، وزيادة الخدمات المقدمة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
نصف الكوب فارغ ونصفه الآخر ملئ.. ويبقى أن نتساءل عن دور رجال الأعمال.. ودور المواطن لعبور هذه الأزمة العالمية بسلام.. قد تكون هذه السنة صعبة وبعدها يأتى الفرج، وتعود المياه إلى مجاريها.