هل نبحث عن نظام اقتصادى جديد؟
دفعت الأزمة الاقتصادية العالمية الدول الكبرى والصغرى إلى البحث عن نظام اقتصادى جديد، وحكومتنا لا تعلم. فى أنحاء العالم يعلنون أن المفهوم الكلاسيكى للنظام الرأسمالى وحرية الاقتصاد أثبتت الأزمة الحالية فشله.. فتلاميذ سنة أولى اقتصاد يدرسون أن الاقتصاد الحر معناه أن يقتصر دور الدولة على وظيفة الأمن (الجيش والبوليس). والخدمات العامة (الطرق والنظافة وتعليم وعلاج الفقراء) وفيما عدا ذلك فليس على الدولة إلا تقديم كل ما يلزم لإطلاق يد القطاع الخاص ليفعل ما يشاء، ويختار مجال النشاط الذى يحقق مصلحته، وغالبا يختار القطاع الخاص العمل فى الاستيراد والتصدير والتجارة عموما والحصول على توكيلات من شركات أجنبية لبيع منتجاتها فى الداخل وجنى الأرباح من العمولات.. هذا أسهل من بناء مصانع وإقامة مشروعات إنتاجية واستصلاح أراض جديدة.. القطاع الخاص يفهم الاقتصاد الحر على أنه ترك الساحة مفتوحة أمامه حتى يتمكن من القضاء على المنافسة ويصل إلى الاحتكار ويتحكم فى الأسعار دون أن تتدخل الدولة، وإلا فإن تدخلها يعتبر عدوانا على قوانين السوق الحرة.
هذا ما يدرسه تلاميذ سنة أولى عن مساوئ الرأسمالية حين تطلق لها الدولة العنان وتفتح أمامها الطريق لافتراس المواطنين.. وهذا ما ظل بعض وزراء حكومتنا يرددونه على مدى السنوات الأربع الماضية.. صحيح أن بعضهم اضطر – بفعل الأزمة – إلى أن يضع فى عينه (حصوة ملح) ويخفف من غلواء اندفاعه نحو هذه الرأسمالية بالادعاء بأن كل مهمة الدولة أن تعطى امتيازات للرأسماليين ومزيدا من الامتيازات ولا تُبْقى للناس إلا التصريحات والتمنيات الطيبة.. ووفقا لفلسفتهم فإن الدولة عليها أن تعفى الرأسماليين من الضرائب.. وتعطيهم الأرض المصرية مجانا (وتعطيها للفقراء بأضعاف ثمنها).. وتدعم من أموال دافعى الضرائب ما تحتاج إليه مشروعاتهم من الكهرباء والغاز وخلافه.. وعلى الإعلام أن يجتهد فى تشويه صورة الدولة (القديمة) التى كانت تأخذ من الأغنياء لتعطى الفقراء، وإقناع الناس بأن حقيقة دور الدولة أن تأخذ من الفقراء لتعطى الأغنياء!
***
الصورة كما رسمها رؤساء الدول ورؤساء أكبر الشركات العالمية وأساتذة الاقتصاد الكبار كانت فى منتدى دافوس فى الشهر الماضى كما يلى: تراجع النمو الاقتصادى فى جميع دول العالم دون استثناء، وتزايد البطالة، وإفلاس شركات وبنوك عملاقة، وزيادة معدلات الفقر، وانعدام الثقة فى المؤسسات المالية.. والحل الذى نادى به أغلبية قادة الدول الكبرى لإنقاذ الاقتصاد المنهار هو أن يعود دور الدولة لدعم الشركات والمؤسسات المالية، وشراء الشركات والبنوك أو شراء نصيب كبير منها لتعود إلى ملكية الدولة قبل أن تصل إلى الإفلاس، وقيام الدولة بزيادة الدعم على السلع التى يستهلكها الفقراء ومتوسطو الدخل.
قادة الدول الكبرى – الذين تلزمهم نظم السياسية وتلزمهم شعوبهم بالمصارحة والشفافية قالوا فى دافوس صراحة إن هذه الأزمة تفرض على العالم البحث عن نظام اقتصادى ومالى جديد.. رئيس الوزراء البريطانى الذى يقود بلدا كان اقتصاده أقوى اقتصاد فى أوربا، وكانت عملته (الجنيه الاسترلينى) أقوى عملة فى العالم، رئيس الوزراء البريطانى (جوردون براون) أعلن – بصراحة وبدون لف أو دوران – أن النظام الاقتصادى (يقصد الرأسمالى) والمؤسسات المالية التى نشأت منذ نصف قرن لا يمكنها التعامل مع أزمة فى حجم الأزمة التى تخيم على العالم الآن، ولإنقاذ ماء الوجه حاول الدفاع عن العولمة بقوله إنها لا تزال صالحة للبقاء.
والمستشارة الألمانية – إنجيلا ميركل – التى تقود هى الأخرى أكبر اقتصاد رأسمالى فى أوربا، والتى تحكم الدولة التى قامت بأكبر عملية خصخصة فى العالم بسرعة البرق، قالت – دون التفاف على الحقيقة – إن الحل لهذه الأزمة هو الطريق الثالث بين الاشتراكية والرأسمالية، وإقامة علاقة جديدة بين اقتصاد الدولة واقتصاد السوق، لا تمنع القطاع الخاص ولا تكبل خطواته، ولا تطلق له العنان بلا ضوابط، ولا تعود إلى السيطرة والتسلط كما كانت الدولة تفعل فى النظم الاشتراكية السابقة.
أغرب ما قيل – قبل دافوس – هو ما قاله الرجل الرأسمالى المتوحش المدافع عن الرأسمالية المتوحشة الذى كان يقود أكبر النظم الرأسمالية المتوحشة فى التاريخ، جورج دبليو بوش فقد قال – وهو رئيس للولايات المتحدة: إن العالم يحتاج إلى نظام جديد.. يحتاج إلى رأسمالية ذات طابع اجتماعي إنسانى! واعتبر هذا الكلام إعلانا لهزيمة الرأسمالية المتوحشة ونهاية عصرها.. وأن الاقتصاد يحتاج إلى العودة إلى الانضباط، والدولة يجب أن تعود لحماية مواطنيها وعدم تركهم فريسة لغول الرأسمالية.. ومع هذا الفكر الجديد قال رئيس البنك المركزى الأوربى – جان كلود تريشيه – إن النظام الاقتصادى والمالى الجديد يجب أن يتوافر فيه أكبر قدر من الشفافية، ويحتاج إلى قوانين تضبط النشاط الاقتصادى، ويحتاج إلى قضاء مستقل وعادل وسريع وحاسم.. وإن دعائم هذا النظام الجديد يجب أن توضع موضع التنفيذ قبل أن تصل الأزمة الاقتصادية إلى مرحلة يصبح الحل فيها مستحيلا.
وهكذا عبر قادة العالم عن حقيقة الأزمة – التى ترفض حكومتنا – أن تصارحنا بحجمها وتستسهل تكرار الاسطوانات القديمة عن اقتصادنا القوى القادر على عبور الأزمة دون أن نتأثر بها، وكأن اقتصادنا أقوى من اقتصاد أمريكا وبريطانيا وألمانيا واليابان والصين والهند.. وكلها أعلنت حكوماتها أنها تأثرت وأنها تبحث عن طريق جديد وفكر اقتصادى جديد قبل الطوفان!
قادة العالم أعلنوا – ومازالوا يعلنون – أن العالم سيشهد سنوات عجافا لا يعرف أحد إلى متى تستمر، واتفقوا على أن العالم الآن أمام مفترق طرق، وأن أية حلول يمكن أن يتوصل إليها أصحاب القرار السياسى والاقتصادى لا بد أن تبدأ بالاعتراف بالأخطاء التى ارتكبتها الحكومات بسياستها الرأسمالية وارتكبها الرأسماليون ومديرو الشركات والبنوك.. فالأزمة لم تحدث من تلقاء نفسها.. ولم يتسبب فيها الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.. ولكن تسبب فيها الرأسماليون والحكومات.. وتسببت فيها التقارير المالية المضللة حتى وصل الأمر إلى حالة من فقدان ثقة الناس فى الحكومات والمؤسسات المالية عموما.. وهذا ما اعترفت به دراسة ميدانية أجراها معهد البحوث الأمريكى (كونفرانس بورد).
***
لم تجد دول العالم حلا للأزمة إلا أن تتدخل وتتحمل الخزانة العامة الخسائر التى حققها الرأسماليون وتنفق مليارات.. بل ترليونات.. هل ستنفقها لتدخل جيوب الرأسماليين ولتعويضهم عن خسائرهم لبعض ما نهبوه فى السنوات الماضية، هل سيكون ذلك بدون رقابة وإشراف حكومى على الإنفاق وبدون ضوابط للحرية الاقتصادية؟! وإذا كان أكبر مدافع عن الرأسمالية فى أكبر قلعة للرأسمالية – بوش حين كان رئيسا لأمريكا – قد أعلن أن الحل هو تدخل الحكومة، وقال: تركنا مبادئ اقتصاد السوق من أجل أن ننقذ اقتصاد السوق.. وإذا كان الرئيس الفرنسى – نيكولا ساركوزى - قد أعلن (من هذه الأزمة سيولد نظام عالمى جديد) فلماذا تأخرت حكومتنا – كالعادة – عن رؤية الأزمة بحجمها الحقيقى.. ورؤية الطريق الجديد الذى بدأت الدول الأخرى السير فيه)؟!.
***
لم يعد غريبا أن نقرأ فى الصحافة الأمريكية مقالات المديح التى تشيد بنجاح نموذج اقتصاد السوق الحرة الاشتراكى فى الصين، فتقول (نيوزويك) إن الولايات المتحدة بدأت تميل مع أوروبا إلى الأخذ بنظام يعطى للدولة سيطرة أكبر على النشاط المالى والاقتصادى، بتأميم جزء كبير من البنوك الكبرى (يسمونها القلاع المصرفية) وشراء الدولة لأجزاء من الشركات الكبرى لصناعة السيارات، وفرض قوانين وقواعد جديدة لتنظيم القطاع المالى.
تصوروا.. الأمريكيون.. سادة الاقتصاد الحر.. أصبحوا ينظرون إلى الصين ويتعلمون منها.. تقول نيوزويك إن الصين فى ظل نظامها الذى يجمع بين السوق الحرة والاشتراكية معا تبدو هى الأفضل فى القدرة على تخطى ما هو قادم من ركود عالمى سيكون الأسوأ فى التاريخ. وإن التدخل الحكومى الذى كان يعتبر فى الماضى دليلا على عدم نضج الاقتصاد الصينى، وكانت الولايات المتحدة توجه إليه النقد وتمارس الضغوط على الصين لتغييره، ثبت الآن أنه هو الضمان للاستقرار.. فالصين لديها فلسفة خاصة للانتقال التدريجى البطىء إلى اقتصاد السوق، وقد قاومت الضغوط ورفضت الإسراع والاندفاع فى التحول الاقتصادى وقد بدأت الانتقال التدريجى منذ 30 عاما بقيادة الزعيم دينج هيسياو بينج الذى رأى أن الاستقرار السياسى والاجتماعى يتحقق بعدم الانصياع لضغوط الولايات المتحدة والبنك الدولى، ولا صندوق النقد الدولى، ولا منظمة التجارة العالمية، لأن الدول الكبرى لا تلتزم بما تطالب به غيرها، والدليل على صدق رؤية هيساو بنج أن أمريكا وأوروبا وضعت رسوما على أنواع من السلع بحجة محاربة الإغراق، وفرضت رسوما جمركية على صادرات 200 شركة صينية بقيمة 740 مليون دولار، وفى نفس الوقت ظلت تطالب الصين بعدم فرض رسوم على الصادرات الأوروبية والأمريكية إليها.
***
لقد حقق الرأسماليون أرباحا تفوق الخيال فى السنوات الماضية.. وعاشوا عيشة الملوك وأكثر من الملوك.. وتسببوا فى الأزمة.. والشعوب هى التى تدفع الثمن الآن.. الرأسماليون يكسبون والحكومات تدفع من أموال الشعوب.. الحكومة اليابانية قررت إنفاق 130 مليار دولار بصفة مبدئية لتنشيط السوق.. الهند انهارت أسهم (تاتا) أقدم وأكبر تكتل صناعى فيها وكان يقال: أينما تذهب فى الهند ستجد تاتا أمامك لأنها تسيطر على الأسواق ولها مائة شركة.. تاتا انخفضت أسهمها 60% .. فرنسا قررت إنفاق 60 مليار يورو كبداية.. أسبانيا أعلنت أنها خسرت 30% من عائداتها من التصدير والسياحة.
***
الرأسماليون الذين كونوا ثروات بلا حساب وظلوا يحاربون مبدأ تدخل الدولة.. أو حتى مجرد الرقابة على النشاط الاقتصادى.. هم الآن – بعد الأزمة – يطالبون بتدخل الدولة.. إنهم يطلبون أن يكون دور الدولة محصور فى أن تقدم لهم الدعم المالى.. أى أن تتحمل الدولة الخسائر ويحققوا هم المكاسب حتى بعد أن تسببوا فى الأزمة .. وهذه هى طبيعة الرأسمالية.. أن تخرج دائما بالغنيمة.. حتى فى الأزمة.. والناس الغلابة هم دائما الذين يتحملون الخسائر..
والحل.. الطريق الثالث.. لا هو رأسمالية مائة فى المائة.. ولا هو اشتراكية مائة فى المائة.. هو طريق بين الاثنين.. يجمع بين مزايا النظامين.. ويتجنب عيوب الاثنين. ويبقى أن نفكـر كيف يكـون هـذا الطريق الثالث، وهل يمكن تطبيقـه بعــد أن أصبــح أصحــاب المـال والأعمال هم أصحــاب الصـوت العالى؟!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف