أين طوق النجاة من الأزمة؟
بعد أن أصبحت الأزمة الاقتصادية أزمة عالمية ولم تعد أمام أية دولة فرصة للنجاة منها، بدأ الاقتصاديون والسياسيون فى إعادة النظر فى النظام الرأسمالى الذى طبقته الولايات المتحدة وفرضته على دول العالم بالضغوط والحروب وبالتهديدات والإغراءات وبالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى.. الآن راحت السكرة وجاءت الفكرة.. والجميع يبحثون عن طوق النجاة من الغرق.. الجميع يبحثون عن الخروج من هذا النفق المظلم الذى يهدد مئات الملايين بالفقر والبطالة، ويهدد الحكومات بالعجز عن الخروج من المأزق وبانتشار التمرد والفوضى، الغريب أن فى أمريكا الآن من يدعو إلى الحل الاشتراكى! وفى أمريكا أكبر حركة لتدخل الحكومة فى إنقاذ المؤسسات التى توشك على الإفلاس.. فى أمريكا عودة إلى ملكية الدولة لبعض المؤسسات.
فى مجلة نيوزويك – أشهر وأقوى المجلات الأمريكية – مقال غريب بعنوان (كلنا اشتراكيون الآن)! يقول هذا المقال إن الحكومة الأمريكية فى ظل إدارة بوش – وهى إدارة جمهورية محافظة قامت بتأميم فى قطاعى البنوك وقروض الإسكان، تتحول أمريكا فى عام 2009 إلى النموذج الاقتصادى لدولة أوربية عصرية مثل فرنسا – فيها ملكية عامة وملكية خاصة – وقد يكون ذلك مؤقتا إلى أن تنتهى الأزمة الاقتصادية ثم تعود أمريكا لقيادة العالم نحو الرأسمالية والسوق الحرة مرة أخرى، ولكن المهم أنها اكتشفت فى وقت اشتداد الأزمة أن الاشتراكية – والملكية العامة – هما طوق النجاة!
يقول المقال: كلنا اشتراكيون الآن لأن أمريكا – حتى فى ظل الإدارة الجمهورية المحافظة نفذت برنامجا للتوسع بشكل غير مسبوق فى نظام الرعاية الاجتماعية (الضمان الاجتماعى والإعانات والطعام المجانى للفقراء وإعانة البطالة) والتوسع فى تقديم ما يحتاجه المسنون من الأدوية، واعترفت بضرورة قيام الحكومة بدور أكبر فى الاقتصاد، وها هى ذى الآن تتراجع عن سياسة شن الحروب التى قانت لتحقيق مصالح الرأسمالية.. وها هو ذا الرئيس أوباما قد أعد أكبر برنامج مالى فى التاريخ الأمريكى يصل إلى تريليون دولار لإنقاذ البنوك والشركات ووقف تزيف البطالة بعد أن وصلت البطالة إلى أعلى معدل لها منذ 16 عاما.. كانت نسبة الإنفاق الحكومى حوالى 30% من الناتج المحلى الاجمالى، سيصل إلى 40% مع ارتفاع الإنفاق المخصص للبرامج الاجتماعية خلال العقد المقبل.
والمفاجأة أن الأمريكيين الآن يتقبلون فكرة التراجع عن الرأسمالية بمفهومها الكلاسيكى، أى حرية أصحاب الأموال حرية مطلقة وعدم تدخل الدولة، ويتقبلون تغيير النظام الاقتصادى إلى الاقتصاد المختلط، أى القائم على القطاع الخاص والقطاع العام معا.. ويتقبلون التخلى عن سياسة ريجان الاقتصادية.
مفاجأة ثانية هى أن الأمريكيين لم يعودوا يثقون فى الحكومة! ومفاجأة ثالثة أن نسبة الادخار انخفضت إلى الصفر بعد أن كانت 7.6% .
***
فى عام 2000 انهارت شركات التكنولوجيا وبلغت خسائرها تريليون الدولارات، وفى ديسمبر 2001 أعلنت شركة إنرون المختصة بالطاقة إفلاسها بعد أن بلغت خسائرها 60 مليار دولار، وبلغت خسائر صناديق التقاعد مليارى دولار بعد أن كان فائض الميزانية يوم تولى بوش الحكم 128 مليار دولار، وبفضل سياسته الليبرالية الجديدة المنحازة للرأسمالية وصل العجز فى الميزانية 455 مليار دولار عند نهاية ولايته.. وعند نهاية ولايته أيضا أعلنت شركة ليمان براذرز إفلاسها بعد أن بلغت ديونها 600 مليار دولار وتسبب ذلك فى أكبر خسارة لأسهم البورصة، وفى أكتوبر 2008 اضطرت إدارة بوش إلى تأميم بنك فاتى ماى، وبنك فريدى ماك، وحصلت شركات تصنيع السيارات على 17.4 مليار دولار، واكتشف أوباما أن رؤساء ومديرى الشركات والبنوك ينهبون الأموال فى صورة مزايا ومكافآت وحوافز فأصدر قرارا لأول مرة بتحديد دخلهم.
هذا ما جعل نيوزويك تقول: لقد أصبحنا كلنا اشتراكيون!
***
الآن وبد فوات الأوان اكتشفت الإدارة الأمريكية أن إطلاق العنان للقطاع الخاص بدون ضوابط يؤدى إلى كوارث. وقبل ذلك عندما كانت مارجريت تاتشر رئيسة للوزراء فى بريطانيا وسارت فى عمليات بيع الشركات والمرافق بسرعة واندفاع ووصلت الخصخصة إلى السكك الحديدية، وقيل يومها إن تاتشر تمثل قيادة تاريخية، وأنها المرأة الحديدية لأنها لم تستمع إلى النصائح أو التحذيرات من هذا الاندفاع، ولكنها كانت مصممة على تغيير تركيبة المجتمع البريطانى وبناء نظام اقتصادى جديد يعمل على زيادة ثروات الأثرياء ورجال الأعمال لأنها كانت ترى أن زيادة ثروات الأثرياء يمكنهم من توليد الثروة وزيادة الإنتاج، ولكن زيادة دخول الفقراء ستنتهى إلى الاستهلاك ولن تولد ثروة جديدة! وقيل يومها إن كل من يريد الإصلاح الاقتصادى عليه أن يتبع خطوات تاتشر ويندفع فى الخصخصة بشجاعة مثلها، وبعد سنوات ظهرت نتائج هذه الشجاعة وفقد حزبها – حزب المحافظين – ثقة البريطانيين وفشلت فى الانتخابات بسبب زيادة فقر الفقراء وتراجع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للطبقة المتوسطة.. ودفع حزب المحافظين ثمن الاندفاع غير المحسوب فى الإصلاح الاقتصادى دون مراعاة للاعتبارات الإنسانية والاجتماعية والسياسية.
واليوم تعود الحكومة البريطانية إلى شراء أسهم الشركات والبنوك. ويعود القطاع العام.
***
وأمامى الطبعة العربية التى أصدرتها مكتبة الشروق الدولية لكتاب الرأسمالية فى طريقها لتدمير نفسها لاثنين من الاقتصاديين الفرنسيين الكبار هما باتريك آرتو، ومارى بول فيرار، يبحث الكتاب عن شرعية حصول الرأسماليين على الثروة فتزدهر الرأسمالية، وهى رأسمالية بلا مشروع، ولا تستخدم ملياراتها فى بناء المستقبل، ولا يهمها القلق الاجتماعى الناتج عن أطماعها، أما الحكومات فى هذا النظام فإنها لا تعالج الأعراض ولا تصل إلى أعماق المشكلة، وأعماق المشكلة فى لا معقولية تصرفات كبار المستثمرين الذين يعملون على تحقيق أرباح سريعة ومرتفعة للغاية ولا يلجأون إلى الاستثمار طويل الأجل، وهم يضغطون على أجور العمال، وبسبب جشع الرأسمالية الذى لا يقف عند حد تحدث الأزمات الاقتصادية المتكررة فى الدول الرأسمالية.
هذا الكتاب مهم لعمقه فى تحليل تطبيقات الرأسمالية وسأعود إليه فيما بعد لأن أمامى كتاب آخر مهم لواحد من أكبر علماء الاقتصاد فى مصر هو الدكتور إبراهيم العيسوى عنوانه أزمة النظام الرأسمالى والاقتصاد المصرى يقول فيه إن المصريين صاروا رافضين للنظام القائم برأسماليته الهشة وانحيازه للأغنياء، وبما يرتكز عليه من تحالف بين الثروة والسلطة، وبما أنتجه من فقر وبطالة وتبعية، وصاروا يتطلعون إلى نظام بديل، نظام يبدأ بالتنمية المعتمدة على الذات، فالقوى الأخرى لا تطرح سوى نسخ أخرى من الرأسمالية سواء ارتدت ثوبا علمانيا أو إسلاميا.. ومفتاح الحل – عند الدكتور إبراهيم العيسوى – هو مفتاح سياسى. وتنافس حزبى جاد، والعمل – وفق استراتيجية واضحة ومعلنة وبرنامج زمنى لمراحل معالجة فجوة التخلف العلمى والصناعى والاقتصادى والاجتماعى، والعمل على تخفيف المعاناة عن المواطنين – وليس عن الموازنة العام وزيادة الأعباء على المواطنين.
والحل.. أن تعود الدولة إلى دورها فى توجيه عملية التنمية الشاملة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا الدور لابد منه لملء الفراغ الناشىء عن ضعف الرأسمالية المحلية وميلها إلى الأنشطة التجارية والسمسرة والعمولات وتوكيلات للشركات الأجنبية والمضاربة فى الأراضى والعقارات ولا تعمل على بناء ركائز التنمية بقواعد التصنيع.
ليس لدى الرأسمالية المصرية مشروع وطنى للتنمية، وكل أمالها فى الارتباط بالشركات الدولية من خلال التوكيلات أو تجميع منتجاتها، ورأس المال الأجنبى – طبعا – لن يفكر فى بناء قاعدة اقتصادية وتنمية حقيقية للبلاد، فالشركات الأجنبية لا تعمل إلا من تحقيق مصالحها، وهذا شىء مفهوم ومنطقى، لأن الأجنبى لن يكون حريصا على بناء وتنمية وتقدم بلد ليس وطنه ولا يعنيه فيه إلا الحصول على أكبر قدر من الربح.. الحل – كما يرى الدكتور إبراهيم العيسوى – وهو قيام الدولة بدور مهم فى الاستثمار فى مجالات الإنتاج الحاكمة، والتخلى عن الأوهام القائلة بأن تدخل الدولة من خلال بناء قاعدة إنتاج يزاحم القطاع الخاص ويعطل جهوده، لأن مجال التكامل بين القطاعين واسع، وعموما فهذه الأفكار تستحق المناقشة والحوار حولها بدلا من الاكتفاء بالرأى الواحد.. ذلك أفضل ج