هموم جامعية

تبدأ النهضة الحقيقية من الجامعة‏..‏ فإذا نهضت الجامعة نهضت الأمة كلها‏..‏ لأن الجامعة تملك من مقومات النهضة مالا تملكه أي مؤسسة أخري من مؤسسات المجتمع‏,‏ حيث تحتشد فيها صفوة العقول والكفاءات‏,‏ وتتوافر فيها الخبرة والقدرة علي الإبداع والتجديد والإضافة‏,‏ وليس أمامنا الآن إلا أن نركز جهودنا علي إعادة بناء الجامعات المصرية لتكون جامعات عصرية بحق‏.‏

وهناك قضايا بالغة الأهمية تفجرت في المؤتمر القومي لتطوير التعليم العالي تستحق أن تكون ضمن الأولويات العاجلة‏.‏

‏ هناك اتفاق علي أن التعيين في الوظائف بالكليات لا يتم حسب الاحتياجات الحقيقية‏,‏ ولكن علي أساس المصالح في تعيين المحظوظين من كل دفعة‏,‏ وقصص تعيين المعيدين في بعض الكليات محل حديث المجتمع‏,‏ كما قال الدكتور عبد العزيز حجازي رئيس الوزراء والأستاذ الجامعي وعميد كليات التجارة الأسبق‏,‏ وقال أيضا إن أعداد هيئات التدريس تزايدت في الكليات‏,‏ وإذا راجعنا موازنات الباب الأول فسوف نجد أن معظم الأموال المخصصة للجامعات يتم إنفاقها في المرتبات والأجور‏,‏ ولا يبقي للبحوث والمعامل والتجارب العلمية والأنشطة الطلابية إلا مبالغ هزيلة لا تساعد علي نهضة علمية‏,‏ وثقافية‏,‏ أو اجتماعية‏,‏ أو تكفي لأنشطة تسهم في بناء شخصية الطالب وإعداده للمساهمة في بناء مجتمعه‏..‏ إلي غير ذلك من الشعارات التي نرددها ولا نستطيع تحقيقها‏..‏ ولقد أصبح الحال يقتضي وقفة جادة لترشيد الإنفاق‏.‏

‏ وقضية أخري فجرها أيضا الدكتور عبد العزيز حجازي هي قضية الترقيات واللجان العلمية للترقية‏,‏ وقال إنه يرصد هذه اللجان منذ سنوات فوجدها لا تخضع لضوابط موضوعية‏,‏ وإن كانت تعلن بعض الضوابط‏,‏ وتكتب في الأوراق مايوحي بالموضوعية والحياد‏,‏ إلا أنها في الحقيقة تخضع فقط للمزاج العام للمشاركين في هذه اللجان العلمية‏,‏ وكثيرا ما تصطدم الكفاءات العلمية من المدرسين بالتحيز من هذه اللجان لتعطيل ترقياتهم‏,‏ رغم توافر شروط الكفاءة العلمية‏,‏ ويزداد الإصرار علي التعطيل‏,‏ كما قال الدكتور حجازي لغرض في نفس يعقوب‏!‏ بهدف ضياع الأقدمية علي البعض‏,‏ وتأخيرهم عن البعض الآخر ممن هم متساوون معهم في الكفاءات والدرجة‏,‏ وطبيعي أن تنشأ حالة من الإحساس بالظلم‏,‏ وتضيع الروح الجامعية‏,‏ وفي النهاية يفقد عضو هيئة التدريس انتماءه إلي الكلية والجامعة الذي كان يعتز به‏,‏ ويفقد احترامه للكبار‏,‏ وقد يتأثر عطاؤه العلمي‏,‏ وتفقد البلد أجيالا من الشباب من أعضاء هيئات التدريس القادرين علي العطاء‏,‏ وتصبح القاعدة الولاء الشخصي وليس الولاء للعلم‏,‏ أو البحث العلمي‏.‏

وما ذكر الدكتور حجازي أعاد إلي الأذهان عشرات من الأمثلة لما تفعله لجان الترقية‏,‏ فقيل أن الدكتور أحمد زويل هاجر ولم يعد بعد حصوله علي الدكتوراة‏,‏ من الولايات المتحدة‏,‏ لأنه كان قد تعرض لتجربة علمته درسا قاسيا‏,‏ حين أعد رسالته للماجستير بعد سنة واحدة‏,‏ ولكن بعض الأساتذة وقفوا في طريقه وحاولوا تعطيل حصوله علي الماجستير‏,‏ ليس لأن أبحاثه ليست علي المستوي الذي يؤهله للماجستير‏,‏ ولكن لأسباب شخصية كان من بينها أنه بذلك سوف يصل إلي درجة أستاذ‏,‏ وهم مازالوا في هذه الدرجة‏,‏ فكيف يسمحون لتلميذهم أن يتساوي معهم ولو بعد عشرات السنين‏..‏ وكانت النتيجة أن تحمل أحمد زويل إلي أن حصل علي الماجستير وعلي المنحة للدكتوراه ثم لم يعد‏,‏ وأثبت أنه قادر علي أن يكون في مستوي علمي يتفوق فيه علي كل أساتذته في مصر وفي أمريكا أيضا‏,‏ ويدخل التاريخ كواحد ممن غيروا مسار العلم الإنساني‏..‏ وتناقل الجميع مئات القصص كان من بينها تجارب مريرة دفعت أشهر العلماء المصريين إلي الهجرة من بينهم مجدي يعقوب‏,‏ وفاروق الباز‏,‏ وعادل عبد الفتاح‏,‏ وغيرهم وغيرهم كثيرون هم الآن في الصفوف الأولي ولهم مكانة رفيعة في جامعات أوروبا وأمريكا‏..‏ فهل تجدي هذه الصيحة في إصلاح الحال‏,‏ وإنقاذ جيل من شباب العلماء الجامعيين من الإحباط‏..‏؟ كان هذا أملا ناشد المؤتمر المجلس الأعلي للجامعات لإيجاد حل له وإلا فلن يكون إصلاح الجامعات مجديا‏.‏

‏ إن الجامعات المصرية بأوضاعها الحالية بعيدة عن طبيعة العصر‏,‏ ومازالت تدرس المناهج والمواد والمقررات التي كانت تدرسها منذ عشر سنوات‏,‏ مع أساتذة الجامعات أنفسهم هم الذين يرددون بأن هذا عصر ثورة المعرفة‏,‏ وأن المعارف الإنسانية كانت تتضاعف كل‏500‏ سنة‏,‏ والآن أصبحت تتضاعف كل‏18‏ شهرا‏,‏ ومع ذلك فإنهم لا يغيرون من مناهج الدراسة ما يتفق مع هذا الطوفان من المعرفة العلمية المتجددة‏,‏ وأساتذة الجامعات هم الذين يتحدثون عن ضرورة مشاركة الجامعات في تطوير الصناعة والزراعة والإدارة‏,‏ وهم بالفعل يقدمون أبحاثا‏,‏ واستشارات‏,‏ ولكن ليس من خلال الجامعات وليس بمساعدة فريق بحث من الشباب ليتعلم ويكتسب التجربة‏,‏ ولكنهم يفعلون ذلك خارج إطار الجامعات‏,‏ ولحسابهم الخاص‏,‏ أما عن طريق مكاتبهم هم‏,‏ أو بصفة شخصية كخبراء ومستشارين‏,‏ وهذا هو الفارق بين الجامعات المصرية والجامعات الأوروبية والأمريكية‏,‏ حيث يجري الأساتذة أبحاثهم داخل الجامعات والمراكز العلمية ولحسابها ومعهم مساعدون من شباب الجامعة‏,‏ ونعود مرة أخري إلي نموذج أحمد زويل‏,‏ فقد أجري أبحاثه داخل معهد كالتك‏,‏ ومعه‏150‏ باحثا ومساعدا‏,‏ ولم يطرح نتائج بحثه للبيع‏,‏ ولم يدع ملكيتها شخصيا‏,‏ بل ولم ينتظر حفلات تكريم أسطورية داخل أمريكا علي إنجازه العلمي التاريخي‏,‏ لأنهم هناك يرون أن هذا شيء طبيعي‏,‏ وهناك‏150‏ عالما مثله حصلوا علي نوبل من العلماء المهاجرين من جميع أنحاء العالم‏,‏ وأبحاثهم في النهاية للمركز العلمي ولأمريكا‏,‏ ومعلوم أن التطبيقات العملية المترتبة علي نتائج أبحاث الدكتور زويل ستحقق آلاف الملايين من الدولارات‏,‏ ولكنها لن تكون له شخصيا‏,‏ والخلاصة أن علم العلماء هناك وعطاءهم داخل الجامعات‏,‏ وعندنا العكس فالجهد والعلم والعطاء للأستاذ خارج الجامعة وليس داخلها‏..‏ كيف نعيد الأمور أن الوضع الصحيح‏..‏ هذه هي المعضلة الكبري‏..!.‏

وكل أساتذة الجامعات يعلمون إلي عدد مستخدمي الإنترنت هذا العام سوف يصل إلي‏300‏ مليون شخص‏,‏ وأن حجم التجارة العالمية بالإنترنت سوف يصل بعد سنوات إلي‏3‏ تريليونات دولار‏,‏ ومعني ذلك أنه إما أن نعد خريج الجامعة لهذا العصر الجديد‏,‏ وإلا فسوف نظل علي هامش العصر‏,‏ ومع ذلك فإن خريج الجامعات المصرية لا يجيد استخدام الكمبيوتر‏,‏ ولا يستفيد من خدمات الإنترنت‏,‏ ولا يتم تدربيه علي متابعة الجديد في مجال تخصصه‏,‏ ولذلك يتجمد الخريج بعد الشهادة الجامعية ولا ينمو ولا يتقدم‏..‏ والقضية أن التعليم الجامعي عندنا لا يعمل علي تعليم الطالب كيف يعلم نفسه مدي الحياة‏,‏ وكيف يجدد معلوماته ويتطور مع تطور المعرفة‏..‏

ويبدو أن الهموم الجامعية في مصر كثيرة‏..‏ أكثر مما نتصور‏..‏ بعد أن استسلمنا لحالة الرضا عن النفس بإنجازات جزئية ومحدودة‏,‏ كانت أقرب إلي خداع النفس‏..‏ والآن جاءت لحظة اليقظة من الأحلام الخادعة‏,‏ ومواجهة الحقائق المرة‏,‏ وخوض معارك صعبة‏..‏ ولكن النصر فيها ممكن‏.‏


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف