مستقبل الجامعة (4)

مشاكل الجامعات كثيرة‏,‏ واستراتيجية النهوض بالتعليم الجامعي عموما لها مداخل متعددة‏,‏ البعض يري أن الحل يتوقف علي تدبير الأموال الكثيرة المطلوبة‏,‏ والبعض الآخر يري أن الحل في اقامة المزيد من المباني والمعامل وشراء المزيد من الأجهزة الحديثة‏,‏ وهناك تصورات وآراء كثيرة أخري‏,‏ ولكني خرجت من حوارات المؤتمر القومي الكبير لتطوير التعليم العالي الذي جمع صفوة العقول المصرية بنتيجة مختلفة هي أن مشكلة المشاكل في الجامعات المصرية هي الأستاذ الجامعي‏,‏ لأنه في الحقيقة غائب‏,‏ ولا أحد يريد ـ وربما لا أحد يستطيع ـ أن يواجه الحقيقة رغم أن اصلاح التعليم الجامعي لايمكن أن يتحقق إلا باقتحام هذه المنطقة المحظورة المليئة بالألغام‏,‏ والتي يتهرب من مواجهتها الجميع‏,‏ وهي إعادة الأستاذ الي موقعه في الحياة الجامعية‏,‏ لكي يتحمل مسئوليته‏,‏ ويقوم بدوره كاملا مثلما يفعل الأساتذة في أي جامعة متقدمة في العالم‏.‏

والغريب أنه استقر في أذهاننا أن الجامعات تشكو من نقص عدد الأساتذة ولدهشتي اكتشفت من الحقائق التي طرحت في هذا المؤتمر وبالأرقام أن لدينا أساتذة أكثر مما يجب اذا طبقنا المعايير العالمية‏,‏ حتي ان عدد أساتذة كليات الطب الآن بمعدل أستاذ لكل عشرة طلاب في بعض الكليات‏,‏ وفي بعض الكليات الأخري أستاذ لكل‏25‏ طالبا‏,‏ وفي الكليات النظرية هناك أستاذ لكل‏200‏ طالب‏,‏ وبعض الكليات فيها أساتذة يقسمون المادة الواحدة التي لاتتجزأ الي قسمين فيدرس أحدهما نصف المادة ويدرس الآخر النصف الثاني لكي يجد كلاهما فرصة توزيع كتابه‏,‏ وتبين أيضا أن هناك أساتذة ليس لهم جدول علي الاطلاق طول السنة وبالتالي لايحضرون الي كلياتهم‏,‏ وتبين أيضا أن الأساتذة الذين يشكون من كثرة العمل يعملون بين ساعتين وثلاث ساعات اسبوعيا‏,‏ وهذه الحقائق يعرفها الجميع ولكنهم يرفضون الإعلان عنها ويتحدثون عنها فيما بينهم وينكرونها في العلن ولا يرحبون بالحديث عن تغيير ما هو قائم‏.‏

في حلقات المناقشة تصارح الجميع بانشغال الأساتذة دون استثناء بأعمال خارج الجامعة‏,‏ اما في عيادات أو صيدليات أو مستشفيات أو في مكاتب للمحاماة والاستشارات والتدريب‏,‏ أو في بنوك أو شركات عامة أو خاصة مستشارين أو أعضاء مجالس ادارات أو في هيئات أجنبية أو اقليمية‏..‏ فالجميع مشغولون بأعمال خارج الجامعة ولديهم ارتباطات تمنعهم من القيام برسالتهم كأساتذة جامعيين‏,‏ ولهم تلاميذ‏.‏

وقيل بصراحة في هذا المؤتمر ان الأستاذ الجامعي في مصر يتوقف عادة عن البحث العلمي بعد وصوله الي درجة أستاذ‏,‏ وليس لدينا نظام يطالبه بتقديم أبحاث جديدة‏,‏ ولذلك توقف النمو العلمي لعدد كبير منهم‏,‏ ولم يعد هؤلاء يتابعون الجديد في مجالات تخصصهم‏,‏ والنتيجة أنهم يدرسون للطلبة نظريات وأفكارا أصبحت قديمة دون أن يدروا‏,‏ ويعتمدون علي مراجع تجاوزها التقدم العلمي السريع مع أننا نردد كثيرا أننا أصبحنا في عصر ثورة المعلومات وتجدد المعارف الانسانية بسرعة تحتاج الي متابعة واطلاع كل يوم‏,‏ وفي الجامعات في كل الدول المتقدمة لايستمر الاستاذ في موقعه إلا بمقدار مايقدم من أبحاث لها قيمة علمية حقيقية‏,‏ ولعلنا نذكر ما قاله الدكتور أحمد زويل عن وضعه كعالم كبير أصبحت له مكانة عالمية‏,‏ ومع ذلك فهو حتي الآن مطالب بتقديم أبحاث جديدة في المعهد الذي يقود فيه‏150‏ عالما وباحثا ولا يشفع له أنه دخل التاريخ كواحد ممن أضافوا فتوحات علمية غير مسبوقة‏,‏ وحين سئل بعد مهرجانات الاحتفال به في مصر ماذا ستفعل الآن وقد حصلت علي جائزة نوبل؟ قال إنه سيكون مشغولا في إجراء تجارب وبحوث جديدة يتوقع أن تكون لها نتائج لاتقل عن نتائج اكتشافه الكبير الذي استحق عنه جائزة نوبل‏,‏ وقال إن حصوله علي نوبل ليست نهاية المطاف بالنسبة لأستاذ‏,‏ ولكنها بداية طريق يفرض عليه مزيدا من العمل وبذل الجهد في إجراء أبحاث جديدة باستمرار‏.‏

وربما كان هذا ما دعا الدكتور علي لطفي رئيس الوزراء الأسبق الي اقتراح أن يكون التعيين في وظيفة أستاذ لمدة خمس سنوات فقط‏,‏ ويعاد النظر في إعادة تعيين الأستاذ بعدها علي أساس مايقدمه من أبحاث جديدة تثبت أن صلته لم تنقطع بتيار التجديد في تخصصه‏,‏ وبذلك نضمن تحويل الجامعات المصرية من مدارس للتعليم والتلقين الي مراكز علمية بالمعني الحقيقي وتقود التقدم في المجتمع بالفعل‏,‏ ولا نشكو بعد ذلك الجمود أو الركود في الفكر الجامعي‏.‏ وهذه الفكرة وان كانت جريئة‏,‏ وقد يراها البعض غريبة‏,‏ وسوف يقومها كثيرون‏,‏ ولكن الجميع يعلمون ان هذا هو النظام المطبق في كل جامعات الدول المتقدمة التي تأخذ تقدم العلم والتعليم بجدية‏,‏ وتعرف قيمة ودور الأستاذ‏,‏ وتضعه في المكان الصحيح‏,‏ وتفرق بين الأستاذ وبين المعلم‏..‏ بين الباحث والمجدد وبين الملقن‏..!‏

قيل أيضا وبصراحة ان وضع الأستاذ في مصر ليس له نظير في أوروبا أو أمريكا‏,‏ فهو في مصر سيد قراره‏,‏ وهو فوق المحاسبة‏,‏ ولايخضع لأي نوع من التقويم‏,‏ لا من الكلية‏,‏ ولا من الجامعة‏,‏ ولا من الطلبة‏,‏ فيما يتعلق بالأداء‏,‏ أو الانتظام في حضور المحاضرات أو احترام مواعيدها أو تقديم المساعدة للطلبة في دراستهم‏..‏ وطرحت نماذج عديدة مما يحدث في الجامعات الاجنبية ـ حتي في الدول الآسيوية الصغيرة ـ حيث يقوم الطلبة في نهاية كل فصل دراسي بتقويم أداء الأستاذ بشجاعة وصراحة‏,‏ وتدرس ادارة الكلية آراء الطلبة بكل جدية‏,‏ وتعطي لكل طالب الحق في أن يتقدم بشكوي أو تظلم أو التماس بإعادة النظر‏,‏ ويتم بحث هذا الطلب باهتمام وموضوعية‏,‏ ويجد الطلب الانصاف بسهولة ودون حساسية‏,‏ ودون الحكم المسبق بأن الأستاذ دائما علي حق والطلبة دائما علي باطل‏,‏ أو تصور ان السماح للطالب بأن يشكو أو يتظلم أو يقول رأيه في أداء أستاذه فيه تطاول علي المقامات‏,‏ لأنهم يؤمنون بأن الشكوي حق من حقوق الانسان‏,‏ واعادة النظر في الأحكام مبدأ من مباديء العدالة‏,‏ وتشجيع الطلبة علي إبداء آرائهم هو تدريب علي الديمقراطية ومساهمة في تكوين العقلية النقدية التي لاتستسلم لما هو قائم وتبحث دائما عن تطويره وتغييره‏..‏الخ وإذا لم تكن الجامعة هي المكان الذي يسمح بتطبيق هذه المباديء فأين يمكن تطبيقها‏(‏ ذن‏..‏؟ واذا لم يكن الأستاذ الجامعي هو الذي يؤمن بها ويطبقها علي نفسه أولا فمن يفعل ذلك اذن؟‏..‏

قيل أيضا ان نظام الريادة لم يعد قائما في الواقع‏,‏ ولكنه موجود في كشوف الحوافز والمكافآت فقط‏,‏ فمن الناحية النظرية كل أستاذ مسئول عن رعاية عدد من الطلبة رعاية علمية‏,‏ اجتماعية وروحية‏,‏ لكي يتحقق في الجامعة مانسميه الروح الجامعية ويتحقق معني الأبوة أو الأستاذية‏,‏ ويكتسب الطلبة من خلال الاحتكاك المباشر مع الأستاذ القيم الجامعية والعلمية والاخلاقية والسلوكية‏..‏الخ وتقل المسافة التي تفصل بين الطالب والأستاذ‏..‏ وهناك قلة قليلة من الاساتذة هي التي تفعل ذلك‏..‏ ولكن الأغلبية حولت نظام الريادة في كثير من الحالات الي نظام شكلي علي الورق فقط‏.‏ وهذا هو السر في الجفوة في العلاقة بين الأستاذ والطالب‏,‏ وعدم ولاء وارتباط الطالب بكليته وأساتذته‏.‏

وقيل ماهو انن لدينا اتفاقات لتبادل الاساتذة مع الجامعات المتقدمة ما هو أهم‏,‏ ولاتتاح الفرصة لزيارة الجامعات المتقدمة إلا لعدد محدود من الأساتذة المحظوظين أو أهل الحظوة بينما الغالبية من الأساتذة تقضي حياتها دون أن يتاح لها فرصة التعرف علي مايحدث في الجامعات المتقدمة أو الاحتكاك بزملائهم في ذات التخصص في الجامعات المتقدمة التي لاتكتفي بتعليم الطلبة ولكنها تضيف الي العلم الانساني جديدا في كل لحظة وفي كل مجال‏.‏

مثل هذه القضايا مهمة‏,‏ طرحت بصراحة وشجاعة من الأساتذة الجامعيين وليس من غيرهم‏,‏ ولكنها تحتاج الي شجاعة أكبر في تغيير الأوضاع القائمة تغييرا شاملا‏,‏ واعتقد أن مجرد عقد هذا المؤتمر لمناقشة تطوير التعليم العالي‏,‏ ورسالة الرئيس مبارك الي هذا المؤتمر‏,‏ والتصور الذي طرحه رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي‏,‏ والمناقشات الجادة التي دارت فيه من الجامعيين أنفسهم‏,‏ هي بداية اليقظة‏,‏ وتعبير عن ارادة التغيير والاصلاح لكي يعود الأستاذ الغائب الي موقعه الجليل‏,‏ ولابد أن نستثمر هذه الروح لإعادة بناء الجامعات المصرية لتصبح بالفعل جامعات حديثة‏.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف