مستقبل الجامعة (2)

كان مؤتمر تطوير التعليم العالي نموذجا رفيعا للحوار‏,‏ وأحيانا للصراع‏,‏ بين الآراء المختلفة ومدارس التفكير المتعددة في جامعاتنا‏,‏ ولأول مرة تظهر في المؤتمرات المصرية روح جديدة مليئة بالحماس‏,‏ والرغبة القوية والتغيير‏,‏ وممارسة النقد الذاتي بمنتهي الصراحة‏,‏ حتي أن البعض سماه مؤتمر المصارحة والمكاشفة واسماه آخرون مؤتمر الكشف بالأشعة المقطعية لتشخيص الأمراض الظاهرة والكامنة في جامعاتنا واعتبره معظم المشاركين بداية حقيقية لوضع التعليم الجامعي والعالي علي الطريق الصحيح للاصلاح والاستعداد للعصر الجديد الذي لن يكون فيه مكان لشعب أو لدولة بدون تعليم جيد‏.‏

بداية النقد الذاتي كانت في الاعتراف من الجميع بأن الدراسة الجامعية لم تنجح في تكوين الشخصية النقدية والابداعية‏,‏ ومازال الحفظ والاسترجاع والاعتماد علي الذاكرة وحدها هو اسلوب التعليم حتي في الدراسات العليا‏,‏ وبينما تعتمد الدراسة في الجامعات المتقدمة علي جهد الطالب في جمع المعلومات من مصادرها‏,‏ وتحليل هذه المعلومات المختلفة أحيانا والمتناقضة أحيانا أخري‏,‏ لكي يصل بنفسه إلي المعرفة ويكتسب القدرة علي التعلم والتحليل والتفكير العلمي‏..‏ وحتي الآن لايختلف كثيرا أسلوب التعليم الجامعي عن أسلوب التعليم في المدارس الثانوية‏..‏ وتغيير أسلوب التعليم ليس أمرا سهلا لأنه يلقي علي الطالب والأستاذ اعباء لم يتعود أحدهما عليها‏,‏ وسوف ترتفع نغمة الشكوي والنقد وربما الرفض لهذا النظام عندما نبدأ في تطبيقه‏..‏ ولكن ليس امامنا الا ان نبدأ ويكون اختيازنا للطريق الصعب تعبيرا عن انتهاء عصر اختيار الحلول السهلة أو الحلول التي ترضي الناس بصرف النظر عن الصواب والخطأ‏.‏ وليس في أي جامعة حديثة منهج محصور في كتاب واحد الا في جامعاتنا‏,‏ بل ليس في العالم ملخصات للكتب الجامعية إلا عندنا‏.‏

وكان النقد الذاتي واضحا فيما يتعلق بالعلاقة بين الأستاذ والطالب في الجامعات المصرية‏..‏ فهي علاقة لامثيل لها في أي جامعة متقدمة في العالم‏..‏ فالحوار بينه مفقود‏..‏ وفرص الالتقاء معدومة‏..‏ والعلاقة محصورة في تجمع الطلبة صامتين في مدرج والأستاذ يتحدث وحده ثم ينصرف‏..‏ فالعلاقة سلبية ليس فيها تفاعل أو إقناع‏..‏ وبعض الاساتذة لايكاد الطلية يتعرفون علي ملامحهم نتيجة الزحام في مدرجات يتكدس فيها أكثر من ألفي طالب‏..‏ وفي الجامعات نظام يسمح لكل طالب أن يقابل كل أستاذ في مكتبه علي انفراد خلال ساعات محددة ليسأله فيما يواجهه من صعوبات في الفهم أو الحصول علي المراجع أو حتي في علاقاته مع زملائه ومع الأساتذة أو مع النظم الجامعية ذاتها‏,‏ وبذلك يكون الأستاذ أستاذا واقرب إلي المرشد الروحي والأستاذية فيها معني الابوة‏,‏ والرعاية‏,‏ والإرشاد‏,‏ وفيها أيضا معني التلمذة ولا يشعر الطالب بالاحترام أو الولاء لأستاذ لايعطيه من نفسه ووقته ورعايته شيئا‏.‏

ومن باب النقد الذاتي أيضا فإن الجامعات في الدول المتقدمة لها الدور الأول في انتاج الفكر الجديد في كل المجالات‏,‏ وهي لذلك تستحق ان تتولي القيادة الفكرية في المجتمع‏,‏ واقرب مثال لذلك انتوني جيدنز عميد كلية الاقتصاد في جامعة لندن وهو مؤسس نظرية الطريق الثالث التي أصبحت فلسفة وبرنامج حزب العمال وفاز بها الحزب في الانتخابات ويطبعها الآن رئيس الوزراء اتوني بلير‏..‏ وأسس جيدنز نظرية أخري عن العولمة وكيف ستعيد صياغة حياتنا في دراسة رائدة بعنوان عالم يهرول

‏Ruma way world

وفيه رؤية متكاملة لما ستصبح عليه التقاليد القومية‏,‏ والاسرة التقليدية‏,‏ والديمقراطية في ظل العولمة‏,‏ وليس جيدنز وحده الذي يسهم في تطوير الفكر البريطاني ولكن هناك مئات غيره‏..‏ ونحن عندنا أربع عشرة جامعة‏,‏ وآلاف الأساتذة‏,‏ وليس لدينا من قدم فكرا مستقبليا لتطوير المجتمع كله أو في جانب من جوانبه‏..‏ ولانستطيع أن نغفل بالطبع الابحاث التي تقدمها المراكز العلمية لتطوير العمل في بعض المجالات‏,‏ ولكن ما اقصده شيء آخر‏..‏ اقصد مساهمة الجامعة في تطوير المجتمع المصري‏,‏ والفكر والثقافة‏,‏ والعقلية‏,‏ والصناعة‏,‏ والاقتصاد‏,‏ لان النهضة لايصنعها السياسيون وحدهم‏,‏ ولا القادة وحدهم‏,‏ ولا الشعوب وحدها‏,‏ ولكن يصنعها الفكر واصحاب الفكر اولا ثم يأتي كل هؤلاء بعد ذلك‏.‏ أين الجامعات المصرية من مسئوليتها عن النهضة؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يجب ان نتوقف عنده طويلا‏,‏ ولانكتفي بالاجابات النموذجية لتبرير‏,‏ أو تمجيد الوضع الحالي‏,‏ أو الاكتفاء ببعض نماذج ناجحة في مجال أو أكثر وهي نماذج موجودة بالفعل وموضع تقدير‏..‏ ولكن النهضة الشاملة لا تتحقق بنجاح جزئي هنا أو هناك ولابد ان تكون الجامعة في وضعها الصحيح كقيادة للفكر‏,‏ وللتقدم العلمي‏,‏ وللابتكار‏,‏ وللإضافة‏,‏ وللتطوير‏..‏ لتكون هي القيادة باعتبارها صانعة العقول‏..‏ وصانعة عقل الأمة في النهاية‏.‏

وبقدر صلاح الجامعة ويقظتها وتطورها وحداثتها يكون حال عقل الأمة‏.‏

واستطرادا من هذه النقطة المحورية فلمن نوجه اللوم اذا وجدنا في بعض طلبة وخريجي الجامعات فكرا متطرفا أو منحرفا أو مشوها أو رجعيا‏..‏ ولمن نشكو اذا وجدنا في بعض الخريجين معاداة للمنهج العلمي في التفكير والسلوك أو إيمانا بالخرافات‏..‏ أليست الجامعات هي مصانع الرجال؟‏!..‏ والشهادة علي صلاحية هذه المصانع تتوقف علي جودة منتجاتها‏..‏ ولايكفي أن يكون منها مئات أو آلاف من النماذج الجيدة‏..‏ وإنما الحكم يكون بقدر صلاحية الكل‏..‏ وإن تقبلنا منتجا رديئا أو متوسط الجودة في أي صناعة‏..‏ فهل نقبل ذلك في صناعة الإنسان‏..‏ وصناعة العقول‏..‏؟

هذا هو سؤال حياتنا كلها‏..‏ لأن التخلف والتقدم يبدأن من الجامعة وليس من سواها‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف