الدعوة إلى حوار جديد
في الثمانينات بدأ الرئيس مبارك عهده بالدعوة الي حوار وطني واسع حول قضية واحدة هي الاصلاح الاقتصادي شاركت فيه كل العقول المصرية, وطرحت فيه بصراحة مطلقة كل الآراء حول تحليل أسباب الأزمة الاقتصادية والبدائل الممكنة للاصلاح.. وكان هذا الحوار هو نقطة البداية التي حددت مسار الاصلاح الاقتصادي, واسهمت في النجاح الذي تحقق.. لان الاصلاح بدأ بالفكر, وبالاستراتيجية, وبالجهد الجماعي.
ومنذ6 سنوات دعا الرئيس الي حوار وطني أوسع شاركت فيه كل القوي السياسية, وكانت دعوة الرئيس قائمة علي أساس أن المجتمع المصري يمر بظروف تفرض الاتفاق الوطني علي الأهداف القومية الأساسية وتحديد أولوياتها لتكون المرحلة القادمة مرحلة حصاد جديد, والاتفاق حول المصالح العليا للوطن وأهمها الحفاظ علي أمنه واستقراره في مواجهة محاولات هز الاستقرار.. والخروج علي الشرعية والقانون.. وفي هذا الحوار شاركت جميع الأحزاب والمنظمات والشخصيات العامة وأهل الفكر والرأي, ولم يقتصر الحوار هذه المرة علي القضايا الاقتصادية ولكنه شمل معها القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية, وكل مايتعلق بإعادة بناء المجتمع ليكون مجتمعا عصريا.. وبالرغم من محاولات جرت داخل هذا الحوار لتوجيه المناقشات فإن المشاركين فيه نجحوا في توجيه الحوار الي الانفتاح, وطرحت فيه رؤي وآراء مختلفة, وشهد صراعا فكريا حقيقيا انتهي الي درجة من الوفاق العام كانت البداية الصحيحة لخطوات الاصلاح والتقدم في الاقتصاد والتنمية والتعليم والخدمات الاجتماعية, وفي تطوير الحياة السياسية وتوسيع نطاق الممارسة الديمقراطية.. صحيح انه بدا أن هناك جناحا يريد التقليل من أهمية هذا الحوار ونتائجه, ويحاول إسدال ستار النسيان عليه وكأنه لم يكن, إلا أن مثل هذا الحوار الواسع كان أكبر من أي محاولة لتجاوزه, وظهرت ثماره في كثير من المجالات, وأهم من ذلك أن مساحات الخلاف بين القوي السياسية ضاقت, وأمكن الوصول الي اتفاق علي المباديء الأساسية التي تتعلق بسلامة الوطن, وبالأمن القومي وبالأسس التي يجب أن يبدأ من عندها العمل الوطني علي الساحة الدولية, والاقليمية, والداخلية.. وكان ذلك في ذاته نجاحا كبيرا لان التطابق في الفكر مستحيل, وليس مطلوبا, ويظل اختلاف الرأي هو القوة المحركة للفكر وللعمل.
ويبدو أن مرور السنين, والسرعة الهائلة التي حدثت بها التغيرات العالمية والداخلية, والمشكلات التي استجدت معها, قد جعلت هذا الحوار صفحة من صفحات الماضي. فلم يعد أحد يذكره, أو يتحدث عنه, أو يرجع الي نتائجه عند التخطيط للعمل.. وهذا دليل علي أنه قد استنفد أغراضه, وانتهت مدة الصلاحية بالنسبة له كما يقال عن الأدوية, ومن هنا تظهر الحاجة الي حوار جديد.
والدواعي لإدارة حوار جديد كثيرة.. فقد ظهرت في المجتمع قوي جديدة لم تكن قد تبلورت في السنوات الماضية, وهذه القوي لها توجهات ومواقف ومصالح تسعي الي التعبير عنها, وهذا حقها المشروع, وبدلا من أن تحاول فرض آرائها وحدها, تقضي المصلحة أن تطرح في مواجهة الآراء والمصالح الأخري لفئات وقوي أخري في المجتمع لها أيضا الحق في التعبير عن نفسها.. ومن خلال الحوار يمكن التوصل الي الصيغة الصحيحة, أو النغمة الصحيحة كما يقال.. كذلك فإن هناك قضايا ومشكلات استجدت, أو تغير وضعها في ترتيب الأولويات, وتحتاج الي إعادة نظر في ضوء الظروف الجديدة, مثل قضايا التعليم, والبحث العلمي, والارهاب, وحرية الصحافة, والفتنة الطائفية والوحدة الوطنية, والخصخصة, ودور الدولة في ظل المتغيرات العالمية والمحلية, والظواهر الاجتماعية السلبية التي تطفو علي السطح ويخشي أن تتعمق وتتسع, ووضع المرأة والأسرة, وغير ذلك من الموضوعات التي تحتاج الي تبادل الآراء من زوايا مختلفة لبلورة فلسفة اجتماعية تكون موضع التراضي من القوي المختلفة, بالاضافة الي القضايا الاقليمية الكبري التي تتصل بالأوضاع العربية, وصيغة السلام, واستراتيجية مابعد السلام, والقضايا الدولية ابتداء من كيفية الاستعداد لمواجهة تحديات العولمة, ومحاولات فرض صراع الحضارات, والتهديدات التي تحيط بالدول النامية ـ ونحن منها ـ وتحتاج الي تصور جديد للتعامل معها.
القضايا والموضوعات كثيرة.. لان المجتمع المصري يمر الآن بمرحلة جديدة من التحول والنمو, ويتميز بوجود قاعدة عريضة من الشباب تمثل65% من السكان أقل من35 سنة, مما يعني انه مجتمع شاب مليء بالحيوية وبالأمل, وفيه القدرة والاستعداد للتطور والتغيير الشامل, ويرتبط بالمستقبل أكثر مما يرتبط بالماضي, أو ينبغي أن يكون كذلك.. ولابد من ايجاد ساحة للحوار بين الأجيال حتي لايحدث انفصال بين الشباب, وهم الأغلبية, الكبار.. وستكون هذه الساحة فرصة مواتية لاكتشاف عناصر جديدة من الشباب وتعميق رؤيتها للقضايا الأساسية وتعويدها علي تقبل الاختلاف وتعدد الآراء, ومن هنا تأتي ضرورة إشراك الشباب في هذا الحوار.
وفي الحقيقة ان هذا الحوار القومي الذي أري ضرورته الآن هو حل جيد لمشكلة قلة ساحات الحوار, بعد أن وصلت الأحزاب الي ما وصلت اليه, وبعد أن تحولت بعض الصحف الي مدارس لتعليم الشباب التطرف في الفكر والسلوك أو دعوته الي الانحلال والتحلل من الالتزام الوطني, أو تشكيك في كل الأشخاص وكل القيم وكل الأعمال, وتحولت بذلك الي معاول هدم, ولايعرف أحد بالضبط لمصلحة من تعمل.. في هذا الجو المهدد بالتلوث الفكري يحتاج المجتمع الي ساحة للحوار الرشيد بين العقلاء والحريصين علي مصالح الوطن لإعادة ضبط المؤشرات والعقول نحو الاتجاه الصحيح.
واذا فكرنا جيدا فسوف نجد أن هذا الحوار سيفيدنا في الوقاية, وفي العلاج, وفي تجديد الحياة الفكرية والعقلية بشكل عام, واعادة الاهتمام بالقضايا والهموم العامة بعد أن أوشك الجميع ان ينشغلوا بقضاياهم ومصالحهم الخاصة.. وسوف يؤدي هذا الحوار الي رسم خرائط المستقبل, وتحديد الأدوار والمسئوليات.. وكل ذلك مطلوب الآن لتحريك القاعدة بما يتناسب مع الحركة الواسعة في القمة..