متي نحاسب وزارة الشباب

لأن النقد سهل‏,‏ فقد وجهت إلي وزارة ووزيرالشباب انتقادات كثيرة‏,‏ وطالبه البعض بأن يقدم كشف حساب عما أنجزه حتي الآن وما قدمه للشباب من خدمات ورعاية في المجالات الاجتماعية والثقافية والدينية‏,‏ متجاهلين ان عمر هذه الوزارة مائة يوم تقريبا‏..‏ وأن الوزير عليه أن يبدأ أولا بإنشاء هذه الوزارة الجديدة وبناء هيكلها التنظيمي والقانوني‏,‏ وتحديد الصيغة السليمة للعلاقات بينها وبين الوزارات الأخري التي تعمل في مجالات التربية ورعاية الشباب‏.‏

والمشاكل التي تحيط بوزارة الشباب عديدة أكثرها ميراث نصف قرن من الهدم والبناء‏..‏ مرة وزارة للشباب‏,‏ ثم تحول الي مجلس اعلي‏,‏ ثم تعود وزارة‏,‏ وبعد سنوات يتم هدم كل شيء ويعود المجلس الأعلي‏..‏ وخلال عمليات الهدم وإعادة البناء فقدت هذه الوزارة الكثير من القيادات والخبرات المتخصصة كان يتم توزيعها علي جهات أخري باعتبارها عمالة زائدة‏..‏ وفقدت الوزارة والعاملون فيها الحماس والاستعداد للتخطيط لسنوات قادمة علي حساب الجميع بأنهم دائما في حالة مؤقتة‏,‏ وأن الوزارة سوف تصبح غدا مجلسا أعلي‏,‏ وأن المجلس الأعلي سيصبح بعد سنوات قليلة وزارة‏,‏ وسوف يعاد التشكيل والتفكير والتخطيط مرة أخري‏..‏ ويجب ألا نستهين بآثار هذه الانقلابات التي عاشها جهاز رعاية الشباب حتي فقد العاملون فيه الإحساس بالأمان والاستقرار‏,‏ وظلوا مشغولين بما يمكن أن يحدث لهم غدا أو بعد غد‏.‏

وفي السنوات التي أخذنا فيها بنظام المجلس الأعلي كانت مراكز الشباب في المحافظات والقري تابعة للمحافظين‏,‏ وكان اشراف المجلس عليها محدودا ومحاطا بالحساسيات وباحتمالات التصادم مع رغبة المحافظين في نسب كل انشطة وانجازات في مجال الرعاية الشباب اليهم وحدهم‏..‏ ومن الناحية الواقعية لم يكن دور المجلس الأعلي يتعدي توزيع الاعتمادات المالية وكتابة التقارير والإدلاء بتصريحات في الصحف عن إنجازاته‏,‏ بينما تحولت مراكز الشباب الي بؤر مظلمة وراكدة‏,‏ وأصبح معظم العاملين فيها في حالة بطالة مقنعة فيما عدا القليل ممن لم يفقدوا الحماس والرغبة في الخدمة العامة‏..‏ وفي نفس الوقت كان الشعور العام بأن رعاية الشباب ليست الا نوعا من الترف والكماليات في ظروف تفرض الضروريات الاقتصادية نفسها علي الجميع‏,‏ ولذلك جاء ترتيب هذا النشاط في آخر قائمة أولويات الحكومات المتعاقبة مع التظاهر بالاهتمام‏.‏

أما في مجال القول فما أكثر ما كان يقال من ان الشباب هم نصف الحاضر وكل المستقبل‏,‏ وان‏60%‏ من سكان مصر من الشباب مما يعني ان هذه الطاقة العظيمة يمكن ان تكون قوة دفع للتقدم‏,‏ وفي مجال العمل لم تكن هناك رعاية حقيقية للشباب‏..‏ كانت هناك معسكرات لا يستفيد منها الا نسبة تقل عن واحد من مائة ألف شاب‏,‏ وكانت هناك رحلات للمحظوظين‏,‏ وكانت هناك ندوات يحضرها عدد محدود وفي القاهرة فقط‏,‏ ولم يكن هناك مثلا مشروع قومي للاستفادة من طاقة الشباب لتطوير القري‏,‏ او المدن‏,‏ او محو الأمية‏,‏ ولم يكن هناك مشروع قومي لتوفير فرصة ممارسة الرياضة للملايين من الشباب‏,‏ ولكن كان التركيز علي الفرق الرياضية في الأندية الكبري‏,‏ وعلي فرق كرة القدم بالذات التي تخصص لها عشرات ومئات الملايين من الجنيهات‏,‏ ويمنح المدربون الأجانب فيها مرتبات تزيد علي كل ما يخصص لمراكز الشباب في كل المحافظات‏.‏

ويوجه الي الوزير النقد لأنه يتحدث كثيرا في وسائل الإعلام‏,‏ واعتقد اننا يجب ان نلوم الوزير اذا لم يفعل ذلك‏,‏ ليس فقط لأن واجبه ان يعلن افكاره ومشروعاته لكي يضمن مشاركة المجتمع له وتفهمه لما يدور في ذهنه وفي اروقة وزارته‏,‏ ولكن لأن جانبا كبيرا من مسئوليته ان يخاطب الشباب‏,‏ وان يشارك في حوارات معه‏,‏ وان يصحح مفاهيم خاطئة‏,‏ ويسعي الي غرس مباديء وقيم تناسب تطور المجتمع‏,‏ ويقدم للشباب التوجيه المناسب لتحذيره من مخاطر الارهاب والمخدرات والجريمة‏,‏ ويعيد الي الأسرة مكانتها واحترامها في نفوس الشباب‏,‏ ويعمق مشاعر الولاء والانتماء‏..‏ فكيف يفعل ذلك اذا لم يكن الإعلام وسيلة من اهم وسائله مع الوسائل الأخري في العمل‏..‏؟ واذا سكت الوزير فهل تحل مشاكل الشباب او تتغير الأفكار بالسكوت‏..‏؟

ومع ذلك اعتقد ان وزير الشباب الدكتور علي الدين هلال بدأ البداية الصحيحة‏,‏ بعقليته العلمية كأستاذ جامعي قديم متخصص في العلوم السياسية والإدارة‏,‏ بإعداد التنظيم لوزارته‏,‏ وتحديد فلسفة العمل‏,‏ وإجراء اتصالات مع الوزارات وتشكيل لجان عمل مشتركة‏,‏ وزيارة المحافظات‏,‏ واستطلاع احوال مراكز الشباب علي الطبيعة‏,‏ واجتماعات مع المحافظين‏,‏ والخبراء‏,‏ ثم بإعداد خطة للعمل‏,‏ واقول ذلك لأني قرأت تقريرا عن نشاطه خلال هذه الشهور الثلاثة فوجدت انه تحرك في كل الاتجاهات زار‏42‏ مركز شباب في‏6‏ محافظات‏,‏ وأعد مشروع قانون للشباب والرياضة واستراتيجية للنهوض بالرياضة سيعقد ندوة علمية لمناقشتها مع كل الأطراف المسئولة عن الرياضة‏,‏ وبدأ في تحديد صيغة التعاون بين وزارته ووزارات التربية والتعليم العالي‏,‏ والتنمية المحلية‏,‏ والثقافة‏,‏ والقوي العاملة‏,‏ والصحة‏,‏ وهي وزارات تشترك مع وزارة الشباب في مجالات عملها‏,‏ ويتوقف نجاح وزارة الشباب علي مدي تعاون هذه الوزارات معها‏,‏ ومدي ما تضعه امامها من عقبات وعراقيل‏,‏ وفي التاريخ امثلة كثيرة لوزارات ووزراء كانوا سببا في فشل خطط رعاية الشباب لأسباب مختلفة‏.‏ وعلي الرغم من ان الوزير مهتم بالجوانب الثقافية والتربوية والسياسية في رعاية الشباب فإنه انجز الكثير في مجال تنشيط اجهزة واندية الرياضة‏,‏ والأنشطة الفنية‏,‏ وبدأ تنفيذ برنامج اللياقة البدنية لقاعدة واسعة من الشباب‏,‏ وربما يكون هذا البرنامج هو العلاج للمشكلة التي ظهرت في اختبارات الكليات العسكرية وكشفت عن النقص الخطير في اللياقة البدنية والصحية لشرائح واسعة من الشباب المصري‏.‏ واعدت الوزارة برنامجا للانشاءات تكلفت‏126‏ مليون جنيه يشمل انشاء‏125‏ مركز شباب وملاعب ومراكز رياضية‏.‏

ليس هدفي ان اعرض تقرير الوزير عن انجازاته خلال ثلاثة أشهر فقط هي كل عمر وزارته‏,‏ وليس هدفي ان ادافع عن الوزير في مواجهة النقد المتعجل‏,‏ والجاهز‏,‏ الذي يوجه اليه والي وزارته‏,‏ ولكن هدفي ان اشير الي نقطة واحدة هي ان رعاية الشباب في مصر لن تكون مسئولية وزير واحد او وزارة واحدة‏,‏ واذا لم يعمل المجتمع كله‏,‏ بفكر موحد‏,‏ وهدف محدد‏,‏ وفلسفة واضحة لرعاية الشباب‏,‏ واذا لم يشعر كل الوزراء وكل الوزارات بان رعاية الشباب مسئوليتهم المباشرة‏,‏ فلن يستطيع وزير الشباب ان يحقق رسالة وزارته كاملة‏,‏ وفوق ذلك فإن الإعلام مسئول مسئولية مباشرة عن غرس الفكر والقيم في الشباب‏,‏ والأسرة هي المسئول الأول‏..‏

وما نحتاجه هو طرح قضية الشباب بحجمها الحقيقي‏,‏ وفي الإطار الصحيح‏,‏ لكي يدرك المجتمع مسئوليته عن ظواهر الانحراف‏,‏ ومسئوليته في حماية الشباب‏,‏ وبناء الشخصية الإيجابية المتكاملة‏..‏ وهذا موضوع يطول شرحه‏,‏ ولكنه هو موضوع المستقبل كله‏,‏

وقبل ان نحاسب الوزير والوزارة يجب ان نحاسب انفسنا‏..‏ هل وفرنا الظروف والإمكانات الكفيلة بتحقيق ما هو مطلوب منها‏..‏ أم القينا الوزير في اليم وقلنا له‏:‏ اياك ان تبتل بالماء كما كان يقول الشاعر القديم‏..‏؟‏!.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف