الشباب و السياسة

من الملاحظات الجوهرية علي الانتخابات الأخيرة‏,‏ انصراف الشباب عن المشاركة فيها‏,‏ وعدم الاكتراث بالسياسة عموما‏,‏ ولابد من التوقف عند هذه الظاهرة بما تستحقه من الاهتمام‏,‏ لأن الفراغ السياسي يمثل أرضية محتملة للفكر المنحرف والتطرف‏.‏

وهناك قانون علمي ثابت ملخصه أنه ليس هناك فراغ في الطبيعة‏,‏ وكان مكان‏,‏ وكل وعاء‏,‏ لابد أن يملؤه شيء ما‏,‏ فإذا لم تملء رءوس الشباب بالمعلومات الصحيحة‏,‏ فإننا ندع الفرصة لملء هذه الرؤوس بالمعلومات الخاطئة‏,‏ واذا لم نملأ نفوس الشباب بالإيمان الصحيح‏,‏ وقيم التسامح والعمل الايجابي والاخلاص‏,‏ فإن هذه النفوس قد يملأها غيرنا بالمفاهيم المنحرفة عن الدين والايمان‏,‏ وعن أحوال المجتمع وقضاياه‏,‏ وقد يملأها بقيم التعصب والتطرف‏,‏ أو السلبية والرفض‏,‏ أو بالانتهازية‏..‏الخ

والغريب أن هناك من يري أن عدم اهتمام الشباب بالسياسة أفضل من اهتمامه بها‏,‏ لكي يترك السياسة لرجالها‏,‏ وينصرف الي شئونه‏,‏ وينشغل بأموره الشخصية ومصالحة الخاصة بدلا من أن ينشغل بالقضايا العامة أو أن يكون له دور في الخدمة العامة‏..‏ وهذه الفكرة الغريبة لا يعرف أحد من أين جاءت‏,‏ ولا لأي هدف يروج لها البعض‏,‏ تحت ستار أن ذلك يحقق مصلحة البلد‏,‏ بينما العكس هو الصحيح‏,‏ لأن وعي الشباب بالقضايا العامة‏,‏ ووجود الفرصة أمامه للحوار والمناقشة وإبداء الرأي‏,‏ سوف تؤدي الي حالة من الفهم والتفاهم‏,‏ ويتكون الوعي السياسي الذي يمثل خط الدفاع الأول ضد الأفكار والاتجاهات المنحرفة‏.‏ والخروج علي الشرعية‏.‏


هناك من يقول إنه ليست هناك قضية أو معركة يمكن حشد الناس حولها‏..‏ ليست هناك أيديولوجية بعد انتهاء عصر الأيديولوجيات‏..‏ وليست هناك معركة تحرير ضد الاحتلال الأجنبي والاستعمار‏,‏ كما كان الحال في الماضي‏,‏ وكانت المعركة مع الاستعمار تثير المشاعر وتوحد الصفوف‏,‏ ويتجمع حولها كل المواطنين في جبهة واحدة صلبة‏..‏ كذلك كان الحال في معركة السد العالي‏..‏ ومعركة العدوان الإسرائيلي في‏57‏ و‏87..‏ ومعركة تحرير الأرض المحتلة التي انتهت بحرب أكتوبر‏73‏ بالانتصار وعودة الأراضي ومعاهدة السلام‏..‏ يقول أحصاب هذه النظرية إنه لم تعد هناك قضية أو أيديولوجية أو معركة يتجمع حولها المصريون عموما والشباب خصوصا‏,‏ تمثل تحديات أمام المصريين وتحتاج الي الوعي والجد والتجمع من أجل الانتصار فيها‏.‏

هناك معركة التحول الاقتصادي والسياسي والاجتماعي‏,‏ وهذه المعركة تحتاج الي وعي شعبي ومساندة ومشاركة من الشباب لتفهم طبيعة هذه المعركة‏,‏ وحقيقة الصعوبات والظروف المحيطة بها‏,‏ والمناخ الدولي والإقليمي‏,‏ والقيم السائدة من بقايا الماضي‏,‏ التي تحتاج الي تغيير لتساير العصر الجديد‏,‏ والقيم الجديدة اتلتي تمثل قوة دفع لبناء مصر بمفاهيم وأسس جديدة‏,‏ وهناك معركة الاصلاح الشامل لتحسين أحوال المواطنين‏..‏ وهناك قضية الحق العربي في مواجهة الصلف والعنف والاستفزاز الذي تمارسه إسراذيل‏..‏ وهناك قضية التكتل الاقتصادي العربي في مواجهة التكتلات والقوي الاقتصادية الأخري‏..‏ وقضية المخاطر التي تحيط بنا وبالدول العربية وبالدول النامية من العولمة والنظام العالمي الجديد‏..‏ هذه القضايا ـ وأمثالها ـ تحتاج أولا الي الفهم‏..‏ وتحتاج الي الوعي السياسي‏..‏ وتحتاج بالتأكيد الي الاهتمام والمشاركة في العمل السياسي من خلال إطار شرعي‏..‏ قبل أن تسبقنا التيارات غير الشرعية الي عقول الشباب‏.‏

والشباب بطبيعته لديه حب الاستطلاع‏,‏ والرغبة في التجديد والتغيير‏,‏ والبحث عن الحقيقة والمعرفة‏,‏ والقدرة علي العمل‏,‏ واذا لم توجه هذه الطاقة للبناء فلا نلوم إلا أنفسنا‏,‏ اذا وجهها غيرنا الي الهدم‏,‏ فالسباب يحتاج الي ساحة شرعية تقدم للشباب المعلومات الصحيحة وتفسح أمامه المجال للفهم بالتحليل والشرح‏,‏ لكل ما يشغل باله‏,‏ وتفتح أمامه الطريق ليشارك بالتفكير وبالعمل‏,‏ ويجد الفرصة لتأكيد الذات‏,‏ واذا لم يجد الشباب هذه الساحة الشرعية من الممكن أن يكون فريسة سهلة لساحة غير شرعية‏.‏


وليس المقصود مجرد جمع عدد من الشباب ساعة أو ساعتين‏,‏ ليسمعوا حديثا عن القضايا الوطنية‏,‏ فهذه ليست الوسيلة الصحيحة للتربية السياسية للسباب‏,‏ وتحصين عقولهم من أمراض الفكر وانحرافاته‏,‏ كذلك ليس المقصود إلقاء دروس علي الشباب علي غرار مايتعرضون له في المدارس والجامعات بأسلوب التلقين المرفوض والمكروه منهم‏,‏ ولكن المقصود أن تكون هناك فرصة دائمة ومستمرة ومتجددة أمام الشباب للحوار‏,‏ ليتحدثوا هم ويقولوا مالديهم ويوجهون ما لديهم من أسئلة‏,‏ ولا يتلقون إجابات جاهزة‏,‏ ولكنهم يصلون الي الاجابات بأنفسهم من خلال الحوار الموجه البناء‏.‏ والشباب لا يتعلم سلبيا‏..‏ أي أنه لا يعلم نفسه بنفسه‏..‏ لكنه يحتاج الي ن يرشده ويوجهه ليساعده علي إيضاح الحقائق وشرح المفاهيم واستخلاص النتائج من المقومات‏..‏ وكان الفقهاء يقولون‏:‏ من لا شيخ له فشيخه الشيطان‏,‏ ويقصدون بذلك أن كل إنسان يحتاج في مرحلة التكوين الي من يرشده ويوجهه ويقود خطاه ويدله علي طريق المعرفة ويسلحه بمنهج النقد لما يسمع ويقرأ وعدم الاستسلام والانصياع لكل فكرة براقة يختلط فيها السم بالعسل‏..‏ واذا لم يجد الشباب من يساعده ويوجهه الي المعرفة الصحيحة المنظمة فسيكون ضحية للمعرفة العشوائية‏..‏ والعشوائيات محتملة في كل شيء إلا في بناء العقول‏..‏

هل سيبقي أصحاب النظرية الفاسدة علي موقفهم من أن عدم اهتمام الشباب بالسياسة أفضل من اهتمامه بها‏..‏؟


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف