حدود التغيير و ضرورياته

ند بدء الانتخابات وجه الرئيس حسني مبارك كلمة إلي الشعب أعلن فيها أن هذه الانتخابات البرلمانية الجديدة سوف تكون علامة بارزة علي طريق الاصلاح السياسي نعزز بها مسيرة الديمقراطية المصرية‏,‏ وكان هذا عهدا وميثاقا جرت الانتخابات علي أساسه‏.‏

وأمام مؤتمر التنمية الاجتماعية في سبتمبر الماضي اعلن الرئيس مبارك أن الهدف هو ضمان تجديد دماء العمل الوطني وحدد الطريق إلي ذلك بأنه تعميق الوعي الديمقراطي بين الشباب‏,‏ وتشجيعهم علي المشاركة وتحمل المسئولية‏,‏ ودعا كل الاحزاب ـ وفي مقدمتها الحزب الوطني بالطبع ـ إلي دفع الشباب للمشاركة لأن ذلك هو السبيل لاستمرار المسيرة‏,‏ والاطمئنان لقدرة هذه الاجيال علي حماية الديمقراطية من أي أخطار مستقبلية‏.‏


وفي خطاب تكليف الدكتور عاطف عبيد بتشكيل الوزارة الجديدة في أكتوبر من العام الماضي وضع الرئيس ضمن تكليفاته للوزارة‏,‏ أن تفتح المجال لشباب مصر للاسهام بفعالية في مشروع النهضة الشاملة‏,‏ وذلك بتمكين الشباب وزيادة الفرص المتاحة أمامهم للمشاركة النشيطة في العمل الوطني‏..‏ وفي كلمة الرئيس مبارك عشية الاستفتاء علي الولاية الجديدة في سبتمبر من العام الماضي قال الرئيس للشعب‏:‏ انه ليس استفتاء علي شخصي بقدر ماهو استفتاء علي برنامج اصلاحي ونهضوي شامل‏.‏ وقبل ذلك بأيام قال الرئيس مبارك في كلمته أمام الملتقي القومي لنهضة التكنولوجيا‏,‏ أن هذه المرحلة هي مرحلة تجديد الحضارة المصرية‏.‏

ومن الواضح أن الخط العام في فكر الرئيس مبارك أن مصر محتاجة إلي نقلة ترفعها إلي المستوي الحضاري الذي يتناسب مع القرن الجديد‏,‏ وهذه النقلة ـ كما هو واضح في مجمل كلمات وخطابات الرئيس منذ الولاية الجديدة حتي الآن ـ تتلخص في عملية تغيير شاملة‏,‏ في كل مجالات حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية‏,‏ وهدف هذا التغيير كما أعلنه الرئيس مرات عديدة هو الاصلاح الشامل‏.‏ من أجل مزيد من التنمية‏,‏ ومزيد من العدالة الاجتماعية‏,‏ ومزيد من الفرص للأجيال الجديدة‏.‏ وباختصار أن المشروع القومي لمبارك هو تجديد مصر‏.‏ وتنفيذ هذا المشروع القومي الكبير يطرح اسئلة عديدة حول طبيعة التغيير‏,‏ والمدي الذي يمكن أن يصل إليه‏,‏ والقيادات التي تصلح وتقدر علي الاقدام علي العمل بجدية وحيوية وتلقي القبول الشعبي لكي تضمن المشاركة الشعبية في هذا العمل الكبير‏.‏

وعملية التجديد أو الاصلاح الشامل لايمكن تصورها دون عملية تغيير شاملة‏..‏ تغيير في فلسفة العمل في الوطن وفلسفة العمل في كل قطاع من قطاعات الدولة والمجتمع‏..‏ وتغيير في أساليب العمل والأداء والمحاسبة والرقابة‏..‏ وتغيير في أشخاص قيادات قدمت كل مالديها ولم يعد لديها جديد تقدمه ولم تعد لديها الطاقة والحماس والقدرة علي تحمل أعباء ومسئوليات التغيير‏,‏ ولذلك فهي ترفع شعار الاستقرار في مواجهة التغيير وتحذر من مخاطر التغيير‏,‏ وتدعي أن كل الأوضاع الحالية هي أحسن الأوضاع الممكنة‏,‏ وأي تغيير لن يكون إلا إلي الوراء لأنه لم يعد في الطريق مكان للتقدم إلي الأمام‏,‏ وهذا المنطق ـ بالقطع ـ ينطوي علي معاداة طبيعة الحياة ذاتها‏,‏ لأن أهم سمات الحياة هي الحيوية والتجدد‏..‏ حتي في جسم الانسان‏..‏ فأن هناك مئات الخلايا تموت ويولد غيرها‏,‏ وهذا التجدد هو الذي يضمن استمرار حياة الانسان وحيويته‏..‏


ومن الواضح أن مقاومة التغيير هي العقبة الكبري الآن أمام تنفيذ مشروع النهضة الشاملة‏..‏ وهذه هي المعركة الأولي التي تتوقف علي نتائجها صورة المستقبل‏..‏ هل التغيير ضروري أم لا‏..‏ وهل التغيير يفيد في تطور الحياة السياسية والاجتماعية أم لا‏..‏ وحين نحسم هذه المعضلة يمكن أن نتقدم إلي البحث عن وضع خريطة للتغيير الشامل الذي يريده الرئيس‏.‏

وأول سؤال‏:‏ ماذا نغير‏..‏؟ هل نغير كل شيء‏,‏ ونهدم مابنيناه لنقيم بناء آخر جديدا‏..‏؟ وطرح السؤال بهذه الصورة فيه تجاوز للمنطق‏..‏ لأن التغيير لايعني هدم كل شيء‏..‏ ولكنه يعني دفع عناصر جديدة لديها فكر جديد وطاقة حماس جديدة‏,‏ تتفهم طبيعة الأوضاع الجديدة في العالم‏,‏ وفي المنطقة وفي مصر‏,‏ وتتفهم الأبعاد العميقة للمشاكل القائمة‏,‏ وتنظر إليها نظرة جديدة‏,‏ وتضع لها حلولا غير تقليدية‏,‏ وهذا يؤدي إلي السؤال التقليدي‏:‏ هل التغيير تغيير في السياسات وأساليب العمل إن تغيير أشخاص‏..‏ والاجابة أن تغيير الاشخاص ضروري‏,‏ لأن بقاء ذات الاشخاص يعني بقاء ذات العقول والأفكار والعيون‏,‏ فلن تري مايستحق التغيير ولن تقدر علي ابتكار مالم تبتكره من قبل‏,‏ والناس لايتغيرون بمجرد الضغط علي زر أو بأن نطلب منهم أن يتغيروا‏..‏ وأذن فالتغيير لابد أن تكون بدايته تغييرا في الاشخاص لكي تأتي قيادات جديدة بفكر جديد‏.‏


ولايمكن أن يكون التغيير ضد الاستقرار‏..‏ ولو نظرنا إلي النهر فسوف نجد المياه فيه متجددة‏,‏ والمياه التي تراها فيه اليوم ليست هي المياه التي كانت فيه من قبل‏,‏ ولكنه ينساب بهدوء وتتجدد المياه فيه باستمرار دون طفرات‏,‏ وهذا التجدد هو الذي يحافظ علي استمرار المياه نظيفة ويخلصها أولا بأول من الشوائب‏..‏

وإذا أردنا أن نطبق ذلك بشكل عملي فأننا نري أمامنا نتائج الانتخابات وقد اثبتت ضرورة تجديد الحزب الوطني‏..‏ تجديد قياداته‏..‏ وتجديد أسلوبه في العمل‏..‏ لأن الحزب في الفترات الأخيرة لم يكن يعمل وسط الجماهير في الشارع كحزب‏..‏ لم يكن يمارس العمل السياسي‏,‏ ولكنه كان يعمل وكأنه جهاز من أجهزة الدولة‏,‏ وقياداته وزراء ومحافظون وموظفون كبار ورؤساء شركات‏,‏ نقلوا إليه أسلوب العمل الاداري‏,‏ والبيروقراطي‏,‏ واكتفوا بكتابة التقارير‏,‏ وترديد العبارة التقليدية كل شيء تمام‏..‏ وان كان ذلك لاينطبق علي الجميع فإنه ينطبق علي غالبيتهم وفي كل المستويات‏.‏ وتجديد الحزب الوطني هو الذي ينعش الحياة الحزبية والعمل السياسي ويجذب عناصر جديدة للخدمة العامة ويكشف عن المواهب والقدرات التي لاتجد فرصة‏..‏ وسيكون ذلك بداية لتجديد الاحزاب الأخري‏..‏

أما في الأجهزة الحكومية فقد تحققت اصلاحات لا بأس بها‏,‏ ولكنها لاتحقق الطموح الكبير‏,‏ وهناك قيادات اثبتت مقدرة كبيرة‏,‏ وقيادات لم تقدم ماكان مأمولا منها‏,‏ وهذا شيء طبيعي‏,‏ فالكل علي البر عوام كما يقول المثل‏,‏ ولابد من أن ينزل الجميع إلي الماء ليثبت كل واحد مدي قدرته وبراعته في السباحة‏,‏ وليس عيبا ألا يتقق الجميع الأرقام القياسية‏,‏ ولكن العيب أن يستمر في السباق من ثبت أنه ليس علي مستوي الأداء المطلوب‏..‏ وكما يحدث في مباريات كرة القدم‏,‏ فان تغيير لملاعب الذي لايحقق المطلوب منه هو أمر ضروري في قواعد اللعبة‏..‏ واستمرار هذا اللاعب لاسباب غير موضوعية قد يؤدي إلي هزيمة الفريق‏..‏ وتغييره بلاعب آخر سيؤدي إلي فوز الفريق أو زيادة الأهداف‏..‏ والفارق بين لعبة كرة القدم ولعبة السياسة والعمل العام‏..‏ أن التغيير في الأولي محدد بلاعبين فقط‏,‏ أما التغيير في الاخيرة فهو غير محدود وبقدر الحاجة والمصلحة العامة‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف