رؤية الدكتور أبو المجد (1 - 2)

يقف التيار الإسلامى بين نقطتين: أعداؤه لا يرون فيه إلا سلبيات وأخطاء وأنصاره لا يرون فيه إلا الكمال والصواب، ولم يجد التيار الإسلامى من يهدى إليه الحقيقة بما فيها من سلبيات وإيجابيات فى ضوء التجارب التى خاضها على مر السنين، ومن هنا وجدت فى رؤية الدكتور أحمد كمال أبو المجد كلمة الحق والإنصاف للتيار الإسلامى، وهو من كبار فرسان التيار الإسلامى، كما أنه من أكبر فقهاء القانون وله مكانته بين المفكرين المعاصرين على مستوى العالمين العربى والإسلامى.
ومنذ سنوات التقى عدد من المفكرين والمثقفين لمناقشة رؤية قام بصياغتها الدكتور أبوالمجد وجعل عنوانها «تحت تيار إسلامى جديد»، وانتهت المناقشة دون أن تثمر شيئاً يغير من الواقع ويطوره، ولذلك عاد الدكتور أبو المجد إلى نشرها فى كتاب بعنوان (رؤية إسلامية معاصرة: إعلان مبادئ)، بعد أن قرأتها انتابتنى الدهشة.. كيف لم تنل حظها من المناقشة على أوسع نطاق ليدلى كل صاحب رأى برأيه فيما تضمنته من تحليل وتوجيه من مفكر كبير شديد القرب من التيار الإسلامى وحياته مليئة بمواقف الدفاع عن حق هذا التيار فى الممارسة والمشاركة.
ولو أن رؤية الدكتور أبو المجد وجدت ما تستحقه من الاهتمام ويصل الحوار حولها إلى صياغة مشتركة يتفق عليها الجميع وتنقذنا من التشتت الفكرى الذى جعلنا نعيش فى دوامة أفكار ورؤى ودعوات مختلفة ومتعارضة أحيانا وسط جماعات كثيرة جداً بأكثر مما يجب وبينها اختلافات جوهرية وكثيرة جداً بأكثر مما يجب، مما يكاد يمزق وحدة المجتمع ويجعل التنافس - وليس التكامل - هو سيد الموقف فكل جماعة ترى أنها وحدها التى تملك الحق والحقيقة وأوتيت فصل الخطاب وما على جميع الناس إلا أن يسيروا خلفها ويرددوا أفكارها بالكلمة وبالحرف دون زيادة أو نقصان ومن يخرج على هذا الإطار يكون قد ارتكب جريمة كبيرة ولو حدث ذلك فإن المجتمع سيصبح مجموعة ببغاوات تردد نفس المعانى والألفاظ ولا تملك الحق فى الخروج من هذا السياج الحديدى الذى يكبل المعقول خلف جدرانه ولا يسمح لها بالخروج لكى تتنفس هواء جديدا.
المشكلة كما يراها الدكتور أبوالمجد هى أن كثيرا من الداعين إلى الإسلام يتحدثون فى عبارات عامة وغامضة عن «منهج الله» الذى يدعون الناس إلى اتباعه فى مقابل «منهج البشر» وعن ضرورة «أسلمة الحياة»، وأسلحة المعرفة، وأسلحة العلوم، دون أن يعرضوا بوضوح وبالتفصيل هذا المنهج ومكونات الحل والإجراءات العملية لتحقيق ذلك، وما هو مطلوب من كل مسلم لإقامة هذا المنهج، هذا أولا. وثانياً: فإن التيار الإسلامى بكل روافده ليس له توجه فكرى موحد ومحدد، ومنهج الجماعات والمجموعات المتعددة الداخلة فيه تعرض منهجا للإصلاح لا يتجاوز ترديد شعارات مثالية تتضمنها آيات قرآنية وأحاديث نبوية دون أن تراعى أن تكون مواقفها متصلة بالواقع فى حياة الناس وبحقائق العصر، وهذا ما جعل قضيتهم غير واضحة لدى كثير من الناس يرون أن كل الجماعات الإسلامية سواء ولا فرق بينها، وينسبون إليها جميعا الجمود ومحاربة العقلانية وممارسة القهر الفكرى والإكراه النفسى لا يعترفون بالجدال بالتى هى أحسن كما أمر الله، وأنهم فوق ذلك يعادون الديمقراطية ويرون أن «الشورى» ليست ملزمة للحاكم، وأن طاعة الحاكم واجبة حتى وإن كان كافرا، وإن كان ظالما، وأنهم يدعون إلى استباحة العدوان على الآخرين بالعقول وبالفعل ويبررون العنف والوسائل الانقلابية.
هذا التعميم الذى ينظر به بعض الناس إلى التيار الإسلامى لا يستحق المناقشة فى رأى الدكتور أبوالمجد لأن هناك نماذج عديدة للتعبير عن المنهج الإسلامى. فهناك نموذج يجمع بين العزلة والقسوة والإسراف فى التشدد وفرض القيود، وهذا النموذج - فى رأى الدكتور أبوالمجد ينطلق فكريا من معرفة ناقصة بالإسلام - وينطلق نفسيا من رفض الواقع واستعجال التغيير، وتجاهل لبعض الضوابط الأخلاقية والعلمية الأساسية التى تحكم عملية تغيير المجتمعات، وظاهرة «الغضب» ربما تكون بواعثها نبيلة ولكن آثارها مدمرة.
***
من هذه النقطة يصل الدكتور أبوالمجد إلى أن مسئولية ترشيد التوجه الإسلامى ليست أقل أهمية أو أقل ضرورة من مسئولية الدعوة حتى ولو قام المتشددون بحملات لتجريح من يعملون على ترشيد الدعوة أو اتهموهم بأنهم يهدمون تحت ستار التجديد، وما أكبر وما أسهل الاتهامات فى زماننا، ولكن ذلك يجب ألا يدعو أصحاب العقول الرشيدة يتراجعون عن الترشيد ومع الوقت تتغير الموازين ويتراجع أصحاب تيار التشدد والعنف ويدركوا أن الصياح بالشعارات الغاضبة ليس الطريق الذى يجعلهم يسيطرون على عقول الناس أو يمكن أن يمنع الناس من استعمال عقولهم والتفكير بحرية والتصرف بوعى وباستقلال، وأخيرا سوف يدركون أن الشعارات وحدها لا تغير الواقع، وأن الانفعــــال يحرق العقول، وأن العزلة لا تصلح بها الدنيا ولا ينتشر بها دين الداعون إلى إغلاق العقول سوف يدركون فى وقت ما أن الإسلام يفتح نوافذ العقل ولا يغلقها، ويفتح النفوس السوية بالمودة لكل الناس، لأن الإسلام - ببساطة - نزل رحمة للعالمين حقيقة لا شعارا.
وينبهنا الدكتور أبوالمجد إلى أن المشكلات تراكمت والقيت الأساء على التيار الإسلامى وكان المبرر لذلك أن بعض الحركات الإسلامية تورطت فى ممارسة العنف وبعضها لا يزال يمارسه، ومن ناحية أخرى فإن بعض الأنظمة رفعت راية الإسلام وادعت أنها تطبق الإسلام وهى بعيدة عن ذلك فأساءت إلى الإسلام، كما أن الأطماع السياسية مارست التضليل.. وكل ذلك أدى إلى تشويه وتجريح صورة العرب والمسلمين حتى فى داخل العالم العربى والإسلامى، أما فى الغرب فإنهم - غالبا - يرسمون صورة المسلم بأنه يعادى الدنيا ويمارس العنف ويكره الحضارة ويعادى العلم ويبرر إذلال المرأة ويسحق المعارضين ولا يعرف - ولا يعترف - بمبادئ حقوق الإنسان التى أصبحت موضع إجماع فى العالم المتحضر، وصورة المسلمين فى الذهن الغربى أنهم منقسمون على أنفسهم وبعضهم يقيد نفسه بالماضى ولا يستطيع أن يتجاوزه للتطلع إلى المستقبل.
ينتهى الدكتور أبوالمجد من ذلك إلى أن هذا الفهم القيم والسلوك الضال لا يرضى الله ولا ينصر الدين، ولذلك لابد من التغيير.. لابد من تجديد العقل المسلم وتجديد الفكر الإسلامى ويخطئ الإسلاميون حين يعتبرون أنفسهم جاهزين اليوم لتقديم إجابة لكل سؤال، وحل لكل مشكلة، وموقف صحيح فى كل قضية ولابد أن يسلموا ويسلم لهم الآخرون بحقهم فى التجربة والخطأ مثل غيرهم.
***
وفى رأى الدكتور أبوالمجد أن فى داخل التيار الإسلامى ثلاثة تيارات.. تيار رأسمالى يسمح بفتح البــــاب للمظالم والاستفزازات الاجتماعية، وهذا التيار لا يعترف بأن الحرية الاقتصادية ليست مطلقة على عواهنها ويجب أن تقيد من أجل تحقيق «العدل»، والتيار الثانى يريــد تحقيق العدل على حسـاب الحرية السياسية، والحريـــة الشخصية، والحريــة الاقتصادية، وهذا التيار لا يدرك أن العدل بدون الحريات الأساسية يجعل المجتمع يسير على قدم واحدة وليس على قدمين، وينظر بعين واحدة وليس بعينين وهذا يعنى النقص وتجاهل الطبيعة الإنسانية التى فطر الله الناس عليها، أما التيار الثالث فإنه يندفع نحو تحقيق أهداف لم يتم تحديدها بدقة وتفصيل ولديه نقص فى رؤية الواقع، ولم يتوصل إلى حل سليم لتنزيل أحكام الإسلام ومبادئه على كل - أو حتى على معظم- ما فى الواقع المتغير والمتجدد.. وليست هذه التيارات الثلاثة هى كل ما فى الساحة ولكنها هى الأكبر والأوضح وبينها تيار آخر يعبر عن ردود أفعال متشنجة ولا يدرك طبيعة الواقع بما فيه من أوضاع ثابتة وراسخة وأوضاع متغيرة.. ولكن هذه التيارات جميعها تتفق على شىء واحد هو «الاستعجال» وهو الخطأ الذى يقع فيه الجميع، وقد يكون السبب فى هذا الاضطراب فى الواقع الإسلامى مرجعه إلى أن المسلمين تعرضوا للركود والجمود الحضارى فتراجعوا بسبب ذلك عن مواقع القيادة التى كانوا فيها منذ قرون، وأبعدهم ذلك عن كثير من القيم التى تمثل أساس عقيدتهم وقد اجتمع فيهم تراجع الحضارة الإسلامية وأزمة الحضارة الغربية وهذا ما يفسر التناقض الظاهر فى كثير من أفكار وسلوك بعض التيارات الإسلامية.
***
من أين يمكن أن تكون البداية للتغيير والترشيد؟
فى رأى الدكتور أبوالمجد أن البداية أن يدرك التيار الإسلامى أنه تيار فى خدمة الناس وليس للسيطرة على الناس (لست عليهم بمسيطر) ويجب أن يدرك فى تواضع حقيقى فى فئة واحدة لا تستطيع تحمل الأعباء كلها، وأن الفكر الواضح المحدد يجب أن يسبق الفعل وأن مستقبل كل المذاهب والأفكار يتوقف فى النهاية على ما يقدمه كل مذهب للناس لتحسين أحوال حياتهم.
فى رؤية الدكتور أبوالمجد أن التيار الإسلامى محتاج إلى وقفة مع النفس فى ضوء ما يجرى عندنا وعند غيرنا والعالم يسير بسرعة الصاروخ وليس هناك مكان لمن يسيرون بسرعة السلحفاة، ومن لا يتقدم فى هذا العصر فإنه يتأخر وقد لا يتقدم بعد ذلك أبدا.. هذه هى الحقيقة، والحقيقة ضالة المؤمن.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف