و ماذا بعد الانتخابات
لاحظ المراقبون أن اهتمام الشعب المصري بالانتخابات هذه المرة فاق كل انتخابات سابقة, وأرجعوا ذلك الي الثقة في نزاهة الانتخابات, والي الشعور العام بأن رأي المواطن البسيط أصبحت له قيمة وتأثير في النتيجة, ويضاف الي ذلك الثقة بأن الحياة السياسية قد انتقلت من مرحلة الي مرحلة جديدة.
وفي هذه المرحلة الجديدة, أصبح النظام السياسي قائما بحق علي تعدد الآراء, والتسامح مع المعارضة, واعتبارها جزءا لا يتجزأ من نظام الحكم, وأصبت للمعارضة من الحقوق والضمانات والحرية, ما جعل المواطن يشعر بأن مجال الاختيار أمامه مفتوح دون ضغط أو تحايل, وتأكد لديه هذا الشعور عندما رأي ولمس كيف أن نتيجة الانتخابات هذه المرة, لم تكن معروفة سلفا, ثم رأي ولمس كيف سقط عدد كبير من المرشحين البارزين وقيادات الأحزاب, وكيف ظهرت وجوه جديدة لم تنجح بدعم خارجي, ولكنها نجحت باعتمادها علي الناس وحدهم, ولعل هذا ما يفسر زيادة عدد المرشحين, واشتداد حدة المنافسة, وزيادة إقبال الناخبين علي إعطاء أصواتهم, واختفت الحجة التقليدية بأن النتائج معروفة ولا جدوي من المشاركة.. واعتقد أن انتخابات2000 كانت الفصل الأخير, الذي أسدل الستار نهائيا علي بقايا فكر وتقاليد وأساليب انتخابات نظام الحزب الواحد, الذي كان يقدم مرشحيه ليصدق عليهم الناخبون, الي نظام مفتوح تتنافس فيه الأحزاب, ويتنافس الأفراد حتي من أعضاء الحزب الواحد, وهذا ما جعل أساتذة السياسة يقولون إن هذه الانتخابات سوف تكون لها آثارها البعيدة المدي علي الحريات العامة, وعلي نظام الأحزاب, وعلي سير المؤسسات السياسية, وستكون قوة دفع لتطور وتقدم النظام السياسي بأكمله, وإن كان البعض قد رأي أن هذه الانتخابات أظهرت أن الناخبين بلغوا مرحلة الرشد السياسي, بينما لم تصل الأحزاب بعد الي هذه المرحلة, وهذه قضية تحتاج الي البحث والتفكير فيها بجدية, بحثا عن أنسب الوسائل للإصلاح السياسي الذي يبدأ بتطوير وانضاج النظام الحزبي.
والجديد في الانتخابات هذه المرة, هو الإشراف القضائي الكامل علي عمليات التصويت ونقل الصناديق والفرز وإعلان النتيجة, وقد تأكد لدي الجماهير اليقين في نزاهة القضاء, وترسخ الإيمان بأن قضاء مصر هو الضمان للعدالة وسيادة القانون, والالتزام الصارم بحماية الحقوق, وهذا مايدعو الي اقتراح تطوير نظام الإشراف القضائي, بإنشاء هيئة مستقلة للانتخابات لا تتبع أي وزارة من وزارات الدولة, ويمكن أن تتبع رئيس محكمة النقض, وتنتقل اليها إدارة الانتخابات في وزارة الداخلية, ويشرف علي أعمال هذه الهيئة عدد من المستشارين, وتعمل طوال العام في مراجعة وتنقية جداول الانتخابات, والقيام بالإشراف علي جميع الانتخابات التي تجري في البلاد, ابتداء من انتخابات اتحادات الطلاب في الجامعات, الي الانتخابات النقابية, والجمعيات الأهلية, والمجالس الشعبية المحلية, ومجلسي الشعب والشوري, وغير ذلك من انتخابات, ولو راجعنا مايجري في البلاد من انتخابات فسوف نجد أنها عملية مستمرة علي مدار العام, ولكي تسير بصورة دقيقة ومنضبطة, فإنها تحتاج الي جهاز خاص لديه الخبرة والإلمام الدقيق بالقوانين والقرارات التي تحكم الانتخابات في كل ميدان, وسيؤدي ذلك الي تقليل الطعون والقضايا التي تستند الي مخالفات شكلية أو موضوعية في تنفيذ القوانين والتعليمات, وبالإضافة الي ذلك سيكون لهذه الهيئة من الاستقلال مايجعلها فوق الشبهات, وتنعدم الشكاوي الحقيقية والكاذبة, ويبقي لوزارة الداخلية مهمة حفظ النظام فقط, ولا تكون لها صلة بالانتخابات أكثر من ذلك.
وهذا النظام ليس جديدا, فهناك عدة دول لديها هيئة مستقلة للانتخابات, وأبرز مثال عليها الهند, ولذلك فإن انتخابات الهند دائما مضرب الأمثال في النزاهة والحياد, فإذا أضفنا اليها التجربة المصرية الفريدة التي لايوجد لها مثيل في العالم, وهي إشراف قاض علي كل صندوق وعلي كل مرحلة من المراحل من التصويت, الي إعلان النتيجة, فمن الممكن أن تكون هذه الهيئة نموذجا فريدا يحتذي في الدول التي تسعي الي إطلاق الحرية في الانتخابات وتوفير أقصي الضمانات لها.
وعلي الجانب الآخر, أصبحت قضية الالتزام الحزبي والخروج علي الحزب, قضية مثارة, بعد أن خرج عدد كبير من أعضاء الحزب الوطني علي الحزب ورشحوا أنفسهم مستقلين, ونجحوا بينما سقط عدد ملحوظ من المرشحين الذين اختارهم الحزب, وأراد أن يرغم الجميع علي قبولهم.. وقد فسر الرئيس حسني مبارك هذه الظاهرة تفسيرا واقعيا وصريحا, حين أعلن أن المسئولين عن الاختيار في الحزب اختاروا علي أساس شخصي, وأساءوا الاختيار في بعض الحالات, وظهر أن بعض أمناء الحزب الذين اختاروا هم أنفسهم ليست لهم شعبية وليس لهم قبول في دوائرهم, وبناء علي ذلك, رأي الرئيس مبارك تعديل النظام بحيث يكون الحق في الترشيح مفتوحا أمام أعضاء الأحزاب, ويكون الاختيار والترجيح للشعب, وليس هناك ما يمنع من أن يكون للحزب الواحد أكثر من مرشح في الدائرة الواحدة, ويكون اختيار الناخبين قائما علي أساس اختيار الحزب والبرنامج من ناحية, واختيار المرشح الذي تشعر الجماهير بالثقة في شخصه من ناحية أخري, وهذا النظام سوف يكون تطورا آخر, بل سيكون نقلة جديدة نحو آفاق أوسع من الحرية, ويكفي أنه سوف يكسر احتكار قيادات الحزب في الاختيار, وتحكمها في هذا الاختيار, ويكفي أنه سوف يقضي علي الاعتبارات الشخصية في هذا الاختيار, ويقضي علي القيل والقال.
وفوق كل ذلك, فإن هذا النظام يمثل إقرارا لمبدأ الحرية السياسية, الذي عبر عنه الرئيس مبارك بوضوح, حين قال إنه ـ كرئيس حزب ـ لا يستطيع أن يمنع شخصا من أن يتقدم لعضوية الحزب أو يمنعه من الخروج علي الحزب, وهذا تعبير جديد عن الديمقراطية والحرية بالمعني الكامل, الذي يهدف الرئيس مبارك إلي الوصول اليه.
وأتوقع أن تجد هذه الفكرة مقاومة من بعض القيادات, التي تستمد قوتها ونفوذها من التحكم في الاختيار بين الراغبين أو الترشيح من أعضاء الحزب, وأتوقع أن يعمل البعض بقوة علي الالتفاف علي تنفيذها بحجة أو بأخري, وما أكثر الحجج التي يمكن صكها في هذه الأحوال, حين تفتح أبواب الحرية وتهدد نفوذ بعض المتسلطين علي شئون الحزب, ولذلك أتمني أن يطرح النظام الجديد علي الأمانة العامة للحزب علي الفور, ويصدر به قرار وينفذ في انتخابات المجالس الشعبية المحلية أيضا, وانتخابات مجلس الشوري, ولا يقتصر علي انتخابات مجلس الشعب.
وإن كان الحزب الوطني قد خسر بعض قياداته, في هذه الانتخابات, فقد كسب ما هو أكبر وأهم.. كسب ثقة الناس فيه, وإيمانهم بمصداقية رئيس الحزب, الذي تتركز ثقة الجماهير فيه, وهذه هي الحقيقة, فإن وجود الرئيس مبارك علي رأس الحزب الوطني هو الضمانة الكبري لدي الجماهير, التي تجعلها تثق بأن الحزب هو المعبر عن مصالحها والمصالح الوطنية, وما يتمتع به الرئيس مبارك من القوة السياسية والحكمة, والشعبية الطاغية, والثقة بغير حدود, هو السياج الذي يحمي الحزب الوطني, ويجعل له الأغلبية, ويدفع المستقلين الناجحين للانضمام اليه, لأنهم يشعرون بأنهم سيكونون في وضع أفضل لتحقيق مصالح الجماهير, وسيعملون من داخل معسكر الدفاع عن البسطاء ومحدودي الدخل والشباب..
من حقنا أن نشعر بالرضا والفخر, بالانتخابات التي جرت, وليس في المنطقة دولة شهدت أو يمكن أن تشهد مثلها, ومن حقنا أيضا أن نتطلع الي المزيد, لأن مصر تستحق ما هو أكثر.