العرب فى لحظة مواجهة الحقيقة

تعقد القمة العربية هذه المرة في وقت الخطر‏,‏ وقد أصبح واقعا ماثلا أمامهم‏..‏ انتهت مرحلة التهديدات الإسرائيلية‏..‏ وبدأت مرحلة تنفيذ التهديدات بوحشية لم يكن أحد يتصور أن تصل الي هذا الحد‏..‏ وليست قوة إسرائيل هي التي تشجعها علي هذه الاعتداءات‏,‏ ولكن الذي يشجعها هو حالة التمزق والانقسام في العالم العربي‏,‏ وإسرائيل تضع سياساتها وتتخذ قراراتها علي أساس أن هذه الحالة مستمرة ولن يستطيع العرب الخروج منها والاتفاق علي موقف موحد‏.‏


وهذا التصور الإسرائيلي ليس قائما علي الوهم‏,‏ ولكنه مبني علي حقائق وواقع لا ينكره أحد‏..‏ يكفي أن مجرد لقاء القادة في هذه القمة لم يكن أمرا سهلا ولم يتفق عليه القادة بنسبة مائة في المائة‏,‏ ولذلك فإن تنقية الأجواء‏,‏ والعودة الي وحدة الصف العربي تحتاج الي وعي‏,‏ وجهد كبيرين‏,‏ علي أساس أن هذه القمة يجب أن تجتمع في موعدها‏,‏ ويجب ألا يتخلف عن حضورها أحد لأي سبب‏,‏ ومن لديه رأي أو فكر أو موقف خاص به‏,‏ عليه أن يطرحه داخل القمة وليس خارجها‏,‏ فليس هذا وقت البطولات أو الزعامات الفردية‏.‏


واعتقد أن أدق وصف لهذه المرحلة التي تمر بها المنطقة‏,‏ ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت‏,‏ بأن هذه لحظة مواجهة الحقيقة‏..‏ ومهما يكن قصدها من هذه العبارة‏,‏ فهي بالفعل معبرة عن هذه اللحظة‏..‏ فقد انكشف المستور‏..‏ وتوقفت عمليات التجميل‏..‏ وسقطت الأقنعة‏..‏ وظهرت إسرائيل علي حقيقتها‏..‏ وتكشفت نياتها‏..‏ وأسفرت عن وجهها القبيح‏..‏ ولم يعد الأمر محتاجا الي ذكاء لمعرفة أن إسرائيل تريد فرض الأمر الواقع علي الفلسطينيين‏,‏ وتخضعهم لإرادتها وسيطرتها‏,‏ وتحتفظ بهم تحت الحصار الدائم رهينة لاجتياح أرضهم‏,‏ وانتهاك حرمة مقدساتهم‏,‏ وحصد أرواحهم في أي وقت وبأي ذريعة‏,‏ بحيث لا يكون أمام الفلسطينيين إلا الخضوع والاستسلام والتنازل هذه هي الحقيقة الإسرائيلية الآن‏..‏ أما الحقيقة الأمريكية فهي الدعم والحماية لكل ما تفعله إسرائيل‏,‏ وبغير حدود‏.‏


ومع ذلك فإن اجتماع القادة العرب في القمة ليس مظاهرة أو عملا بلا طائل كما يتصور البعض‏,‏ ولكنه خطوة بالغة الأهمية‏,‏ والدليل علي ذلك الجهود الكبيرة التي تبذلها الولايات المتحدة وإسرائيل لعرقلة هذا الاجتماع أو إفراغه من محتواه‏,‏ ويكفي أن نراجع بعض الحقائق‏.‏


‏*‏ إن هذه القمة تعني أن العالم العربي تجاوز مرحلة الانقسام والتشرذم‏,‏ وأن المخطط لاستمرار التمزق العربي قد فشل‏,‏ والأمل في وحدة الصف العربي قد عاد‏,‏ وهذا أمر مهم تدرك أهميته الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا‏.‏


‏*‏ وهذه القمة سوف تبعث للعالم رسالة تؤكد الموقف العربي الإسلامي الثابت‏,‏ بأن العدوان علي الحرم القدسي سيكون الشرارة‏,‏ وسوف يستدعي روح الاستشهاد عند سائر المسلمين في القارات الخمس‏,‏ وسوف ينقل الصراع من صراع سياسي علي الأرض والحق‏,‏ الي صراع ديني علي المقدسات والعقائد‏,‏ ومثل هذا الصراع سيكون في منتهي الخطورة‏,‏ ولن يقدر حاكم علي إرغام شعبه علي قبول الاستسلام أو الهزيمة فيه‏.‏


وسوف يكتشف العالم أن هذا الصراع يمكن أن يحول المنطقة الي فيتنام جديدة‏,‏ ويجعل السيطرة علي الأمور أمرا مستحيلا‏,‏ وأن كل فعل لابد أن يكون له رد فعل‏,‏ ومطالبة الفلسطينيين بالسكوت عن الغزو الإسرائيلي لأراضيهم‏,‏ تتعارض مع قانون الحياة‏,‏ وسوف تجد الولايات المتحدة نفسها أمام لحظة مواجهة الحقيقة‏,‏ وهي أنها لن تستطيع الاستمرار في الانحياز الكامل لإسرائيل علي حساب الحقوق العربية‏,‏ وأن الموقف العادل هو الذي يعيد مصداقيتها أمام العرب‏.‏


‏*‏ وهذه القمة هي التي تستطيع استعادة القدرة علي قيادة الشارع العربي‏,‏ بعد أن سارت الجماهير وحدها‏,‏ بأبعد مما أراد بعض القادة‏,‏ ووحدت مأساة الشعب الفلسطيني مشاعر المواطنين في كل الدول العربية دون استثناء‏,‏ بل وتجاوزت المشاعر العالم العربي وامتدت الي الدول الاسلامية‏,‏ بل وإلي الدول الأوروبية وداخل الولايات المتحدة نفسها‏,‏ لأن المذابح‏,‏ وعمليات الهدم والقصف الوحشية‏,‏ أصبحت تفوق قدرة أي إنسان علي التحمل‏,‏ وشاشات التليفزيون تنقل مشاهد القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد للأطفال والمدنيين العزل‏,‏ مما يشكل جرائم حرب ضد الإنسانية تستوجب المطالبة بمحاكمة المسئولين عنها أمام محكمة جرائم الحرب‏,‏ والأدلة كافية وشهادات وأقوال المسئولين عن هذه المذابح الجماعية مسجلة بالصوت والصورة‏,‏ ولابد أن تستجيب الولايات المتحدة وإسرائيل للمطالبة العربية بتشكيل لجنة تحقيق دولية محايدة لتحديد المسئولية عن الجرائم التي ارتكبت في الأراضي الفلسطينية‏.‏


‏*‏ ومجرد اجتماع القمة العربية‏,‏ سوف يذكر العالم بأن العرب ليسوا في موقف ضعف كامل‏,‏ وأن في أيديهم أوراقا مهمة‏,‏ وهم مازالوا قوة بشرية‏,‏ واقتصادية‏,‏ ومالية كبيرة لم توظف حتي الآن لمصلحة القضايا العربية‏.‏


ومن المهم أن يلفت القادة العرب أنظار العالم الي مايجري في إسرائيل من إعداد أجيال من الإسرائيليين علي كراهية العرب‏,‏ وغرس الإحساس بالتفوق العنصري فيهم‏,‏ وعلي ترسيخ النظرية اللاهوتية الزائفة التي تقوم علي رفض الآخر‏(‏ العربي والمسلم‏)‏ وأن الدولة الصهيونية لايمكن أن تقوم إلا علي الكراهية والاعتداء والاستعلاء‏,‏ ويكفي ما قالته صحيفة هاآرتس الإسرائيلية عن الكتاب الذي أصدرته وزارة الثقافة الإسرائيلية وهو مقرر علي طلبة المدارس‏,‏ عن تاريخ إسرائيل‏,‏ لم يذكر كلمة واحدة عن وجود الشعب الفلسطيني‏,‏ سواء قبل إنشاء الدولة أو بعدها‏,‏ وغير ذلك الكثير مما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي في كتاباته‏,‏ وما نبه إليه من قيام أساتذة الجامعات بتوزيع نص كتاب يشوع الذي يقول‏:‏ ودمروا المدينة‏,‏ وقضوا بحد السيف علي كل من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ‏,‏ حتي البقر والغنم والحمير‏,‏ ثم يوجهون للطلبة أسئلة تتحدد علي اجابتها درجات النجاح والرسوب مثل‏:‏ هل أحسن يشوع واليهود التصرف؟ ومثل‏:‏ اذا احتل الجيش الإسرائيلي قرية عربية خلال الحرب فهل يفعل كما فعل يشوع مع سكان أريحا أم لا؟


لابد أن ينبه العرب العالم الي أن حكومة إسرائيل تنشيء الأجيال الجديدة علي كراهية العرب‏,‏ وتغرس روح العدوان فيهم‏,‏ وبذلك فإن السلام لن يتحقق مع وجود شعب يتم إعداده للحرب‏,‏ بينما تعد الحكومات العربية شعوبها للسلام‏,‏ واذا كانت إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم‏,‏ التي تستطيع تحدي الشرعية الدولية والقانون الدولي‏,‏ مستندة في ذلك إلي التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة‏,‏ فإن الخطاب العربي يجب أن يوجه أولا إلي الولايات المتحدة الراعي لإسرائيل‏..‏


وهذه القمة العربية ليست قمة حرب‏,‏ ولا هي قمة البحث عن وسائل للرد علي القوة الإسرائيلية بالقوة‏,‏ لأن الأمل في السلام مازال قائما‏,‏ ولكنها قمة البحث عن الوسائل التي تضمن أولا حماية الشعب الفلسطيني والشعوب العربية من العدوان الإسرائيلي‏,‏ بعد أن ظهر الي أي مدي يتعرض الأمن العربي للخطر‏,‏ وهي قمة البحث عن موقف يعيد للولايات المتحدة دور الصديق للعرب‏,‏ والراعي والشريك النزيه في عملية السلام‏..‏ وإذا لم يفعل القادة شيئا إلا أن يجتمعوا معا ويزيلوا خلافاتهم ومخاوفهم المتبادلة فسوف يكون ذلك في ذاته نجاحا كبيرا‏.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف