أقنعة الابتزاز السياسى

هناك فرق بين العمل السياسي وبين الابتزاز السياسي‏.‏

وهناك فرق بين ممارسة الديمقراطية مع الحرص عليها وحمايتها‏,‏ وبين إدعاء ممارسة الديمقراطية للتسلل داخل ساحتها والإساءة إليها‏,‏ وتسميم أجوائها‏,‏ وتخريبها من الداخل‏.‏

وهناك فرق بين من يوجه عمله ونشاطه السياسي إلي مخاطبة الرأي العام في الداخل‏,‏ وبقصد الوصول بالرأي العام إلي درجة عالية من النضج والاستنارة‏,‏ وبين من يوجه عمله ونشاطه إلي تغذية تيارات وأجهزة بعينها في الخارج‏,‏ وإعطائها الوسائل والذرائع للضغط‏,‏ أو التدخل‏,‏ أو للإساءة وتشويه صورة البلدوتصويرها علي أنها بلد من البلاد التي يحكمها القمع وتصنيفها مع بعض الدول المختلفة‏,‏ وفي هذا ظلم عظيم لمصر وشعبها وجريمة لا تغتفر‏.‏


وأعتقد أن هذه هي اللحظة التي يجب أن نتفق فيها علي أخلاقيات العمل السياسي في المعركة الانتخابية‏,‏ فقد وصل المجتمع العربي إلي درجة من الانفتاح الديمقراطي‏,‏ وأصبحت مساحة الحريات تفوق بكثير ما هو قائم في دول المنطقة دون استثناء‏..‏ كما أن هناك ضمانة كبري استجدت هذه المرة تقطع السنة المشككين‏,‏ وتجعل كل قول عن تزوير الانتخابات مجرد رغبة في إفساد الجو القائم‏,‏ وأقصد بها ضمانة إشراف القضاء علي جميع مراحل العملية الانتخابية‏,‏ ابتداء من عملية الترشيح‏,‏ إلي إعداد جداول الناخبين‏,‏ إلي إجراء عملية الاقتراع‏,‏ إلي نقل صناديق الانتخابات من اللجان الفرعية إلي اللجنة العامة‏,‏ إلي فرز الأصوات وإعلان النتائج‏,‏ وقصر دور أجهزة الإدارة علي حفظ الأمن وضمان النظام لا أكثر‏...‏ بعد ذلك لم تعد هناك فرصة لقولة سوء‏...‏ فإذا أضفنا إلي كل ذلك التوجيهات التي صدرت من أعلي سلطة في البلاد إلي الأجهزة الإدارية بالتزام الحياد والنزاهة‏,‏ وما أعلنه رؤساء وقادة الأحزاب المعارضة من اطمئنانهم وارتياحهم وثقتهم في صدق نيات الحكومة وفي سلامة الإجراءات التي تتخذها لكي تتم الانتخابات بنزاهة‏...‏ وإذا أدركنا دلالة اشتراك المعارضة بأكبر عدد من المرشحين بصورة تلفت النظر وليس لها إلا معني واحد وهو أن المعارضة واثقة من نزاهة الانتخابات‏,‏ ومطمئنة إلي أن أمامها الفرصة للسعي إلي الحصول علي عدد من المقاعد أكبر مما أتيح لها من قبل‏,‏ لكي تمارس دورها علي نطاق أوسع من خلال الشرعية‏,‏ وباعتبارها جزءا لا يتجزأ من النظام‏,‏ وليست خارجة عنه‏.‏ والمعارضة تؤكد كل يوم أنها واثقة إلي أن توجيهات الرئيس سوف تنفذ بدقة بإعطاء كل الأحزاب فرصة متساوية دون تفرقة أو تمييز‏,‏ لكي يتحقق وجود مؤثر لتيارات المعارضة المختلفة تسهم في تطوير العمل البرلماني والارتفاع به إلي درجة أعلي من الممارسة الديمقراطية‏..‏


ومع كل هذه العوامل تنشر الصحف ما يؤكد الجدية في الضرب علي أيدي كل من يعمل عل النفاذ من ثغرات التعليمات أو استغلال فساد الذمم لدي بعض صغار الموظفين‏..‏ وآخرها أنباء القبض علي موظفين مدنيين في أحد أقسام الشرطة بالإسكندرية لتقاضيهم رشوة مقابل سرقة بعض البطاقات الانتخابية‏,‏ مما يعني أن أي محاولة سوف تواجه بالحسم ودون تهاون‏...‏ والمعني الأكبر والأهم أن القضاء هو الفيصل‏...‏ وكل ما يجري يتم تحت إشراف القضاء‏..‏ وكل الجرائم تحال إلي القضاء‏...‏ وكل الاعتراضات لن يفصل فيها إلا القضاء‏..‏ وولاية القضاء قائمة‏,‏ وحاكمة‏,‏ قبل‏,‏ وأثناء‏,‏ وبعد انتهاء الانتخابات‏...‏ وهذا وحده هو الضمان الذي ليس بعده ضمان‏..‏ والقضاء هو منارة الهداية وحارس الشرعية والنزاهة‏,‏ وله في كل النفوس أعلي درجات الاحترام والتسليم‏..‏ ابتداء من أعلي رأس في الدولة إلي أصغر مواطن‏...‏ فماذا نريد بعد ذلك‏..‏؟

في مثل هذا الجو بما فيه من أسباب تدعو للشعور بالأمان‏,‏ وتشجع علي التفاؤل‏,‏ ما هو الدور المنتظر من المثقفين‏,‏ والعلماء‏,‏ وأصحاب الرأي‏,‏ ورجال السياسة‏,‏ وقادة الرأي العام؟‏.‏ هل الدور الطبيعي لهم الاستفادة من هذه الظروف والعوامل الإيجابية‏,‏ وتكريس جهودهم وفكرهم لدعمها وتنميتها ورعايتها‏,‏ والعمل مع العاملين علي توفير جو الثقة‏,‏ وتنقية الأجواء الانتخابية من السلبيات التقليدية التي تعكس عادة صفو الأجواء من العصبيات العائلية‏,‏ والبلطجة‏,‏ وممارسات العنف بكل صورها‏,‏ والعمل السياسي غير الأخلاقي في نشر الأكاذيب والشائعات وتشويه صورة المرشحين والإساءة إليهم إساءة شخصية وانتهاك حقوقهم القانونية‏,‏ أو انتهاك كرامتهم‏!‏؟


هل الدور الطبيعي لأصحاب الرأي عموما أن يكونوا رسل خير‏,‏ ودعاة إصلاح‏,‏ ويطالبون بتصحيح ما يرونه من سلبيات‏,‏ وتأييد ما يرونه من إيجابيات‏,‏ أم يتخذون طريقا آخر‏,‏ فيجدون الانتخابات بطبيعتها مناسبة ترتفع فها الأصوات‏,‏ وتكثر فيها الأقاويل‏,‏ ويسمح فيها بالتطاول والإساءة‏,‏ وخلط الصدق بالكذب‏,‏ فيدخلون الساحة علي أنها فرصة متاحة إلي آخر المدي لإثارة مشاعر الجماهير‏,‏ وتسميم أفكار التجمعات‏,‏ ونشر الشائعات المتقنة‏,‏ وتكرار القول وبأعلي صوت مما يثير التشكيك والريبة والقلق والتوتر في الرأي العام‏..‏ هل دور أهل الرأي توجيه النقد لما يستحق أم أن دورهم السخرية بالسلطة وقياداتها ورموزها وادعاء أن هذا هو النقد المباح‏,‏ وهل دورهم تأليب الرأي العام بحجة الحرص علي نزاهة الانتخابات والتفرغ لتوجيه الاتهامات كل يوم بصيغة جديدة دون أدلة أو دلائل؟‏.‏ وهل يمكن الجزم يتزوير الانتخابات قبل أن تبدأ أول مرحلة من مراحل العملية الانتخابية ويقال إن ذلك رغبة في ضمان حرية الانتخابات‏..‏


هل يمكن أن نصدق أن في ذلك شيئا من حسن النية؟‏.‏ أو الحرص علي صالح الوطن‏..‏؟ وهل ارتكاب جرائم القذف والسب والإهانة كاملة الأركان كما في قانون العقوبات مستباحة بادعاء حرية الرأي؟‏...‏ مع أن هذه الجرائم تعاقب عليها قوانين العالم دون استثناء في الانتخابات وفي غيرها‏.‏ وسواء وتمت بالنشر أو بالقول‏...‏ في الصحف أو في الشارع‏..‏ فالجريمة هي الجريمة فكيف ندافع عنها ويعتبرها البعض حقا من حقوقهم‏..‏


أن الفارق بين هذا وذاك هو الفارق بين العمل السياسي وبين الابتزاز السياسي‏...‏ الفارق يكمن في أمرين‏:‏ سلامة القصد وحسن النية والحرص علي مصلحة الوطن من ناحية والالتزام بالقانون واخلاقيات التعامل والعمل السياسي‏..‏ وغير ذلك لا يمكن أن يكون إلا عملا من أعمال الابتزاز السياسي مهما وضع أقنعة لتجميل الوجه القبيح‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف