المعادلة الصعبة أمام المؤتمر الاجتماعى

مع مؤتمر التنمية الاجتماعية الذي يفتتحه الرئيس مبارك اليوم يتجدد الأمل في أن يكون بداية لمرحلة جديدة من العمل الوطني‏..‏ مرحلة تعبر عن الفلسفة الجديدة وبرنامج العمل الطموح لتحديث مصر واعادة بناء مؤسساتها علي أسس عصرية تجعل لمصر مكانا في هذا العالم الجديد الذي يتقدم بخطوات واسعة ويحقق فتوحات مذهلة في العلوم والتكنولوجيا‏,‏ وفي تحسين نوعية الحياة للإنسان‏.‏

وعملية التحديث تسير علي ثلاثة محاور متكاملة‏:‏ الاصلاح الاقتصادي‏,‏ والاصلاح السياسي‏,‏ والاصلاح الاجتماعي‏..‏ ويأتي هذا المؤتمر لاستكمال هذا المثلث الذهبي‏,‏ وأمامه قضايا كثيرة أولاها قضية بناء الانسان بما تشتمل عليه من قضايا فرعية بالغة الاهمية مثل قضايا رعاية وحقوق الشباب ودوره في المجتمع‏,‏ وقضايا المرأة ودورها الطبيعي في الحياة والمجتمع والحياة السياسية‏,‏ وقضايا الأسرة وكيفية الحفاظ عليها من العوامل الخارجية التي تهددها وتهز اركانها وتؤثر في قدرتها علي تنشئة الأجيال الجديدة‏,‏ وقضايا الاعلام باعتباره من أهم المؤثرات في صناعة العقول وغرس القيم وصياغة الوجدان والسلوك العام‏..‏


وهناك قضايا اخري كثيرة جدا لا تكفي ايام المؤتمر لمناقشتها بعمق وتفصيل‏,‏ وقد لا يجد المؤتمر أمامه الا الاكتفاء بوضع المبادئ‏,‏ والاطار العام للفلسفة الاجتماعية والعمل الاجتماعي في المرحلة المقبلة‏,‏ وعلي ان يستمر الخبراء والمشتغلون بالفكر وبالعمل الاجتماعي والسياسي والثقافي بعد ذلك في ادارة حوار حول التفصيلات واساليب العمل والتوعية الشعبية‏,‏ والي ان يصل الحوار الواسع الشامل الي بلورة مشروع وثيقة أو ميثاق أو برنامج عمل أو عقد اجتماعي يحدد اهداف المجتمع‏,‏ ويضع تصورا للحلم القومي‏,‏ وآليات وخطوات تنفيذه‏,‏ ودور كل مؤسسة من مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني‏,‏ وتضع في اعتبارها طبيعة مرحلة التحول الكبري التي يمر بها المجتمع المصري‏,‏ وهي ككل مراحل الانتقال والتحول لها ايجابيات ولها ايضا سلبيات وآثار جانبية تحتاج إلي علاج‏,‏ وفي هذه المراحل هناك فئات يشتد احتياجها الي الرعاية حتي لا تتحول الي فئات مهمشة او معزولة‏,‏ أو يائسة‏,‏ ا و خارج مظلة المجتمع وحمايته‏..‏ ولقد سارت الدولة خطوات ملحوظة في هذا الاتجاه ابتداء من زيادة المنتفعين بالضمان الاجتماعي وزيادة الاعانات المقررة لهم‏,‏ الي تنفيذ مشروعات لرعاية الاطفال‏,‏ وذوي الاحتياجات الخاصة‏,‏ والشيوخ‏,‏ الي تحسين احوال سكان العشوائيات‏,‏ ولا تزال مشروعات رعاية هذه الفئات وامثالها مستمرة وتزداد اتساعا وتمثل الجانب العلاجي في العمل الاجتماعي‏.‏

وهناك الجانب الوقائي‏,‏ وهو الاهم‏,‏ والأكثر احتياجا الي حشد كل طاقات المجتمع ومؤسساته‏..‏ وامام المؤتمر اسئلة مهمة تحتاج الي اجابات وخطط عمل مثل‏:‏ كيف نحمي الشباب من الانحراف والتطرف والارهاب‏..‏؟ وكيف نحمي العقل المصري من الثقافات والافكار المنحرفة والمتطرفة‏..‏؟ وكيف نوجه دوافع العنف والعدوانية نحو البناء والعمل المنتج‏..‏؟ وكيف نحمي الاسرة المصرية من التفكك ونحمي الاطفال من تأثير التليفزيون بما فيه من عنف وجنس واغراء بممارسته القوة والعنف؟‏..‏ وكيف نواجه الاتجاهات السلبية في الثقافة والاعلام التي تكتفي بالتشكيك والنقد والرفض والتمرد بدلا من ان تعمق الدعوة الي الانتماء والعمل وتحمل المسئولية‏..‏ ؟ وكيف ننفتح علي العالم لنأخذ افضل ما عنده من التقدم العلمي وقيم العمل والجدية واحترام الوقت بدلا من ان نكتفي بنقل ما فيه وما يشكو منه من انحلال‏..‏؟


كيف نحمي الانسان المصري‏.‏ وكيف نحمي العقل المصري‏..‏ وكيف نحمي القيم المصرية‏..‏ وكيف نحمي مفهوم الوطنية‏...‏ مثل هذه الاسئلة كثير يحتاج الي تفكير وبحث وحوار يشارك فيه كل المجتمع بفكر مفتوح‏,‏ وروح جديدة من التسامح والانفتاح‏,‏ وبعقل جديد يحقق التوازن بين التحرر والالتزام بالقيم‏..‏ ولذلك اقول ان هذا المؤتمر بداية وليس نهاية البحث عن طريق بناء المجتمع المصري والاتفاق علي تصور الهندسة الاجتماعية التي تشمل وضع تصميم للمجتمع الجديد الذي نريده‏..‏

ولا شك ان هذا المؤتمر سوف يتناول بالتحليل الانجازات في مختلف الميادين لتحقيق العدالة الاجتماعية‏,‏ ومن المؤكد ان البعد الاجتماعي لم يكن غائبا لحظة عن القيادة السياسية‏,‏ وهذا ما جعل النموذج المصري للاصلاح الاقتصادي نموذجا نادرا‏,‏ لأنه يحقق التحول دون ان يمس استقرار المجتمع كما حدث في دول اخري مازالت تعاني اثار الاصلاح الاقتصادي المتعجل الذي انتهي بها الي التفكك الاجتماعي‏,‏ وانتشار الجريمة المنظمة‏,‏ والفساد المؤسسي‏,‏ وانهيار الاسرة‏,‏ وتشرد الملايين‏.‏ الخ‏.‏

ولقد تحقق الكثير في مجال التعليم مما يصعب حصره مما جعل المؤسسات الدولية تعلن ان نجاح برنامج تطوير التعليم في مصر يمثل قصة نجاح يمكن الاقتداء بها‏,‏ مع التمسك بمجانية التعليم رغم محاولات سلب الفقراء هذا المكسب الذي يمثل مفتاح الامل للحصول علي موقع افضل في المجتمع بفضل تكافؤ الفرص في التعليم‏,‏ ويبقي ان نركز في المرحلة المقبلة علي تحسين نوعية التعليم‏,‏ الي ان يصبح خريج كلية الهندسة او الطب او العلوم في مستوي نظيره من خريجي جامعات كوريا وماليزيا والهند مثلا‏..‏

وكذلك حققنا ما يشبه المعجزة في بناء مئات المستشفيات والمراكز الصحية وتزويدها بأجهزة تكنولوجية حديثة وخصصت لها مليارات الجنيهات‏,‏ ويبقي الأهم‏,‏ وهو العنصر البشري‏..‏ الطبيب المؤهل الملتزم‏,‏ والتمريض الجيد‏,‏ والدواء المتوفر‏,‏ ونظام عمل SYSTEM‏ لا يحتاج معه المريض الي كارت توصية‏.‏

وفي الاسكان تم التركيز في مرحلة علي الاسكان الفاخر وتوقف الاسكان الشعبي أو كاد‏,‏ ولولا الجهود التي بذلتها السيدة سوزان مبارك شخصيا‏,‏ وجمعية المستقبل‏,‏ وتعاون رجال الاعمال‏,‏ لإعادة التوازن ببناء مساكن للشباب والفقراء‏..‏ وهذا المشروع الكبير يحتاج الي حشد شعبي ودعم من كل القادرين لضخامة مشكلة الاسكان وتأييدها وتأثيرها علي الحياة الاجتماعية في مجملها‏.‏

أمام المؤتمر ان يضع لنا الخطوط العريضة لبناء مجتمع عصري‏,‏ وبناء الشخصية المصرية الجديدة‏,‏ المتفتحة علي كل ما في العالم من فكر وعلم‏,‏ والمحتفظة والمتمسكة‏,‏ في نفس الوقت بالروح الوطنية وبالقيم والتراث الحضاري‏,‏ والتي ينعكس في فكرها وسلوكها احترام قيمة العمل‏,‏ والاتقان‏,‏ والجدية‏.‏ كيف ينفتح المجتمع المصري ويتفاعل مع ضرورات العولمة دون ا ن يفقد شخصيته الوطنية‏..‏ هذه هي المعادلة الصعبة التي نرجو ان يجد المؤتمر حلا لها‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف