حقوق الإنسان بعيون أمريكية

لايزال توماس فريدمان الصحفي في نيويورك تايمز يردد مغالطاته ويغمز مصر بين السطور بالأسلوب الأمريكي الذي سئمنا منه‏..‏ فقد تعودنا كلما رفضت مصر الضغط علي الفلسطينيين‏,‏ أن يدير الإعلام الأمريكي الاسطوانات الجاهزة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان‏,‏ وحق أمريكا في إدارة الجماعات والكوادر التي أعدتها ودربتها للقيام بمثل هذه المهام داخل مصر‏.‏

ويشير توماس فريدمان الي وجود قانون الطواريء في مصر‏,‏ ويغفل الإشارة الي قانون أمريكي هو بذاته قانون الطواريء‏,‏ ولا فارق بينهما إلا في الاسم‏,‏ بل إن القانون الأمريكي يعطي السلطات الأمريكية ما يتجاوز حدود قانون الطواريء في مصر‏..‏ ففي أمريكا قانون اسمه قانون الأدلة السرية وبمقتضي هذا القانون‏,‏ تملك السلطات الأمريكية اعتقال أي شخص بمجرد حصولها علي معلومات تشير الي قيامه بنشاط يتعارض مع استقرار وأمن ومصالح المجتمع الأمريكي‏,‏ واذا لجأ هذا الشخص الي القضاء‏,‏ فإن القانون يعطي السلطات الحق بأن تبلغ المحكمة بأن المعلومات والأسباب التي استندت اليها في حبس هذا الشخص سرية وبمجرد إخطار المحكمة بذلك‏,‏ تكف يدها عن نظر القضية‏,‏ ويسقط حق القضاء في الرقابة علي مشروعية قرار الحبس‏,‏ وتنفرد السلطات التنفيذية بالحق في تقرير اعتقال أي شخص أو الإفراج عنه دون رقيب أو حسيب‏,‏ ودون أن تستطيع العدالة الاجتماعية أن تنقذه من الحبس‏,‏ كما لا تستطيع الحكم بتعويض له عن هذا الاعتقال اذا ظهر أنه تم بغير سند صحيح يبرره‏,‏ ولا يحدد القانون مدة معينة للحبس في مثل هذه الحالات‏,‏ وقد نشرت الصحف الأمريكية أخيرا قصة رجل تم اعتقاله‏,‏ واستمر في الحبس عامين كاملين‏,‏ بمقتضي قانون الأدلة السرية‏,‏ ثم أفرج عنه دون توجيه اتهام اليه‏,‏ ولا أعرف لماذا أغفل توماس فريدمان هذه الواقعة التي مازالت أصداؤها في بعض الصحف الأمريكية‏..‏ ولا أعرف لماذا لم يعلق عليها تحت عنوان الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والعدالة في أمريكا‏,‏ لتكون نموذجا يحتذي في بقية الدول التي تتطلع الي الأخذ بالنموذج الديمقراطي الأمريكي‏,‏ الذي أصبح القدوة والمثل الأعلي‏..!‏

ولا أعرف لماذا لم يعلق توماس فريدمان‏,‏ أو غيره‏,‏ ممن يكتبون في صحف كبيرة مثل نيويورك تايمز عن قضية حقوق الإنسان في السياسة الأمريكية‏,‏ وكيف تبدو قضية انتقائية‏,‏ ووسيلة للضغط علي الدول‏.‏ فالولايات المتحدة تدين انتهاكات حقوق الإنسان في دولة وتفرض عليها عقوبات اقتصادية وسياسية أو تهددها بالعقوبات‏,‏ بينما تتغاضي عن ذات الانتهاكات وأحيانا تدافع عنها وتؤيدها في دول أخري‏,‏ بحيث أصبح الدور الأمريكي كحامية لحمي حقوق الإنسان في العالم موضع شك‏,‏ بل موضع تندر حتي داخل أمريكا ذاتها‏.‏ فالشعب الفلسطيني يعيش في ظروف غير إنسانية‏,‏ تتساوي أو تزيد علي الظروف التي عاشها السود في وطنهم في جنوب إفريقيا في ظل حكم الابارتهيد العنصري‏..‏ والسلطات الإسرائيلية لاتخفي ولا تنكر ما تقوم به بالنسبة للفلسطينيين في الأرض المحتلة‏,‏ من مصادرة الأراضي‏,‏ والاعتقال دون تحقيق أو محاكمة ولسنوات طويلة‏,‏ والتعذيب في السجون والمعتقلات دون حق الشكوي أو اللجوء الي القضاء‏,‏ حيث يعطي القانون الإسرائيلي لقوات الاحتلال والبوليس وسلطات التحقيق الحق في الضرب والصعق بالكهرباء‏,‏ وإلقاء المعتقلين في آبار مملوءة بالماء وفي زنازين مليئة بالفئران والحشرات‏,‏ واصابتهم بالانهيار العصبي بحرمانهم من النوم أياما طويلة‏,‏ وإطلاق الكلاب المتوحشة عليهم وازعاجهم بأصوات عالية مفاجئة‏..‏ وتسمح الحكومة الإسرائيلية‏,‏ بل تأمر‏,‏ بهدم منازل الفلسطينيين وإغلاق مدارسهم وجامعاتهم‏,‏ ووقف الدراسة شهورا طويلة لحرمانهم من التعليم‏,‏ ويسمح القانون الإسرائيلي بفرض الحصار علي الأراضي التي يسكنها الفلسطينيون‏,‏ ومنعهم من التنقل‏,‏ وحرمانهم من العلاج ومنع الأدوية الضرورية عنهم‏..‏

وكل هذه الحقائق وأكثر منها يملأ آلاف الصفحات من تقارير لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة‏,‏ وأمانة المجلس الاقتصادي والاجتماعي‏,‏ وتعلمه الإدارة الأمريكية التي لا تخفي عنها خافية في العالم‏,‏ ولكنها مع ذلك لاتشير الي شيء منها ولو بالتلميح في التقارير السنوية التي تعدها الخارجية الأمريكية عن حالة حقوق الإنسان في العالم‏,‏ رغم أن هذه التقارير تتناول كل دول العالم‏..‏ وهناك عشرات القرارات التي تصدر دوريا ومنذ سنوات عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الممثلة للشرعية الدولية‏,‏ بإدانة الممارسات والمواقف الإسرائيلية‏,‏ التي تتنافي مع أبسط مباديء حقوق الإنسان‏,‏ ومع ذلك فإننا نري في أمريكا جمعيات قوية ونبرات صوت عال للدفاع عن حقوق الحيوان‏,‏ولا نجد جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني في وطنه المحتل‏,‏ أو حقوق الإنسان السوري في هضبة الجولان‏..‏

وعندما أصدرت الخارجية الأمريكية تقريرها هذا العام‏,‏ عن حالة حقوق الإنسان‏,‏ وقفت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت لإلقاء كلمة مؤثرة نددت فيها بتردي أوضاع حقوق الإنسان في الصين وروسيا وتيمور الشرقية وسيراليون وكوريا الشمالية وبورما وأوزبكستان وغينيا الاستوائية وكولومبيا وسيريلانكا والهند وباكستان‏..‏ دون أن تشير بحرف واحد الي إسرائيل‏!‏

ووقفت وزيرة الخارجية الأمريكية طويلا عند إدانة حركة طالبان في أفغانستان وهاجمتها هجوما شديدا‏,‏ لأنها تتبع سياسة الأرض المحروقة في هجماتها علي المعارضة‏,‏ وتمارس أعمالا غير إنسانية بهدم المنازل‏..‏ ومع أن إسرائيل تتبع نفس السياسة وتمارس نفس الأعمال‏,‏ ومع ذلك لم يرد ذكر إسرائيل علي لسان وزيرة الخارجية الأمريكية‏.‏

والولايات المتحدة اخترعت مبدأ جديدا‏,‏ بدأت اقناع العالم به‏,‏ وفرضه علي الدول‏,‏ هو مبدأ التدخل الإنساني الذي يتلخص في حق أمريكا في عبور حدود الدول‏,‏ وإرسال قواتها‏,‏ وفرض العقوبات‏,‏ والعزل‏,‏ وممارسة النفوذ والضغط‏,‏ وانتهاك مبدأ السيادة الإقليمية للدول وقوانينها‏,‏ وإعطاء أمريكا الحق في فرض القيم الأمريكية والمباديء الأمريكية والقوانين الأمريكية علي الدول الأخري‏..‏ كل ذلك تحت شعار حماية حقوق الإنسان في أي مكان في العالم‏..‏ إلا في إسرائيل‏.‏

والولايات المتحدة هي الدولة التي تؤيد بقوة هجرة اليهود من كل أنحاء العالم الي إسرائيل‏,‏ وتدعم هذه الهجرة بالأموال والمساعدات‏,‏ وفي الوقت نفسه‏,‏ فهي الدولة التي ترفض بقوة حق الفلسطينيين المبعدين عن وطنهم في العودة اليه‏..‏ أبناء الأرض تحرمهم منها‏..‏ والغرباء تعطيهم الحق في الانتقال اليها‏..‏ وقد قدمت الولايات المتحدة عشرات المليارات للمساعدة في بناء مستعمرات جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة لتوطين اليهود المهاجرين فيها‏..‏ ولم يقدم توماس فريدمان إحصاء للأموال التي تلقتها وتتلقاها إسرائيل من أمريكا لمساعدتها علي اغتصاب مزيد من الأرض‏.‏

والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تقف ضد الشرعية الدولية في كل قرار‏,‏ لإدانة الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني في الجمعية العمومية أو مجلس الأمن أو غيرهما من المنظمات الدولية‏,‏ ولو قام توماس فريدمان بها حصاء عدد المرات التي استخدمت فيها أمريكا‏(‏ الفيتو‏)‏ فسوف يجد أنها كلها تقريبا لمنع صدور قرارات بإدانة الاحتلال الإسرائيلي‏,‏ ورفض إسرائيل تنفيذ الاتفاقات التي وقعت عليها‏..‏ مع ان أمريكا هي التي تعلن أنها أصبحت قيادة النظام العالمي الجديد‏,‏ وأنها ستقود العالم وفقا لمباديء العدالة والمساواة‏,‏ وهي التي تتنكر لهذه المباديء اذا حاصرت العدوان الإسرائيلي المستمر علي الحقوق الفلسطينية‏.‏

واذا كان توماس فريدمان لايعلم الحقائق عما تفعله إسرائيل منذ عشرات السنين حتي الآن‏,‏ فما عليه إلا أن يعود الي ملفات وتقارير الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمة اليونسكو والمجلس الاقتصادي والاجتماعي‏,‏ أو يكفي أن يطلب جانبا من هذه المعلومات من المخابرات المركزية الأمريكية‏,‏ وهي تعلم وتتابع كل مايحدث‏,‏ وهو قريب الصلة وعلي اتصال شبه يومي برجالها‏..‏ وإن كنت أظن أنه يعلم ـ ولكنه مثل الآخرين ـ ساكت عن الحق‏..‏ والساكت عن الحق شيطان أخرس‏.!


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف