اللعبة الأمريكية
لا يستطيع أحد أن يتحدث عن اللعبة الأمريكية كما يتحدث عنها الامريكيون انفسهم, فهم اقرب الناس, واقدر الناس علي معرفة خفاياها وحقائق اهدافها, وبعضهم أكبر من ان يكون اداة في هذه اللعبة.
وعلي سبيل المثال فان الذي عبر عن حقيقة الموقف الامريكي في مباحثات كامب ديفيد الاخيرة, هو الرئيس الأمريكي الاسبق بمنتهي الوضوح والصراحة, في مقاله الأخير في نيويورك تايمز في السادس من أغسطس الحالي.. وقد أراد بهذا المقال ان يعيد التوازن إلي طاقم التفاوض الامريكي, بخبرته كأول رئيس امريكي ينجح في التوصل إلي اتفاق سلام بين دولة عربية واسرائيل وفقا لمبدأ الأرض مقابل السلام, فيما يعتبر نموذجا للاتفاقات التي يتطلع الجميع إلي التوصل إليها.
والمبادئ التي أراد ان يقدمها الرئيس الأسبق كارتر صاحب التجربة الناجحة في كامب ديفيد الأولي للرئيس كلينتون صاحب التجربة الفاشلة في كامب ديفيد الثانية كما يلي:
* إن هناك قضايا صعبة.. ونقاط تفاوض لا يمكن لأي طرف من أطراف النزاع في الشرق الأوسط التسليم بها وهي قضايا: القدس, والحدود, وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلي وطنهم وهناك تساؤلات لابد أن تكون الاجابات عليها واضحة ومرضية هي: الجولان والمياه, وطبيعة الدولة الفلسطينية والجهد المشترك لتحقيق الأمن لكل الاطراف( وليس لطرف واحد).
* وهده القضايا تحتاج إلي حكمة, وبراعة في تناولها..( وكأنه يريد ان يقول إن تعامل الجانب الامريكي مع هذه القضايا لم يكن بالحكمة والبراعة اللازمين!).
* وإن المجتمع الدولي يعتبر القدس الشرقية ـ من الناحية القانونية ـ جزءا من الضفة الغربية المحتلة..( وكأنه يريد ان يقول إن كل طرح لوضع القدس الشرقية بخلاف ذلك هو خروج علي اجماع المجتمع الدولي.. وتحد للحقائق.. وضد الشرعية الدولية التي تتمثل في عشرات القرارات من الجمعية العمومية للأمم المتحدة ومن مجلس الأمن!.
* ويشير كارتر إلي انه هو ووفد المفاوضات الاسرائيلي الذي كان يرأسه من صقور اسرائيل بيجن وموشي ديان.. الخ توصولوا إلي انه سوف تكون عملية انتحار سياسي بالنسبة للسادات, أو أي زعيم عربي آخر, اذ ما تخلوا عن مطالب شعوبهم فيما يختص بالاماكن المقدسة الاسلامية والمسيحية..( ومعني الكلام ان ما طلبه الامريكيون من عرفات من تنازلات في القدس باسم المرونة أو التخلي تحت ستار ارجاء بحث موضوعها إلي اجل غير مسمي والتوقيع في نفس الوقت علي اتفاق الحل النهائي بانهاء الصراع التاريخي بين الفلسطينيين والاسرائيليين.. لم يكن إلا دعوة لعرفات للانتحار السياسي.. وهذا ما أدركه عرفات فورا وعبر عنه بقوله: لقد جئت هنا لصناعة السلام ممثلا عن العرب من مسلمين ومسيحيين, وممثلا عن المسلمين والمسيحيين في العالم, ولن أقبل ان يدخلوني التاريخ كخائن.. وإذا كنتم تعتقدون ـ كقوة كبري ـ ان بامكانكم فرض عقوبات علينا, فلن تسري علينا أية عقوبات, لاننا بالفعل شعب معاقب.. وإذا وافقت فإنني ادعوكم لجنازتي, فأنا مشروع شهيد.. وسيكون أول من يوجه إلي سلاحه أخي فتحي عرفات..!
ويبدو ان الحقيقة التي عبر عنها عرفات لم تكن مقنعة للوفد الأمريكي ـ وليس للوفد الاسرائيلي فقط! ولذلك أراد الرئيس كارتر ان يواجه الغضب الأمريكي لرفض عرفات الاذعان بمقاله لإعادة المنطق والتوازن إلي الموقف الأمريكي.
* ويبدو أيضا ان الرئيس كارتر لم يستطع السكوت علي ما رأه من غياب البديهيات ومبادئ التعامل الامريكي في عملية السلام, باعتبارها الراعي, والوسيط, والشريك, فاضطر إلي ان يذكر الادارة الامريكية بما لا يحتاج إلي تذكره حين قال: ان من مبادئ التفاوض المهمة تمسك الوسيط ـ علي الأقل ـ بمظهر الحياد..( والمعني واضح ولا يحتاج إلي شرح فهو لا يتحدث عن حياد الوسيط ولكنه يتحدث عن ظهور الوسيط بمظهر الحياد) وأضاف إلي ذلك ان إطراء أحد الأطراف, وتوجيه اللوم للطرف الآخر, يدخل في نطاق الإغراء السياسي بعد فشل الجهود, وقد يجعل ذلك من الصعوبة بمكان الاشراف علي مفاوضات مقبلة, حيث يتطلب الأمر من الوسيط ان يحظي بثقة متبادلة.. هكذا يعلن صوت أمريكي له قيمة وخبرة نادرة في إدارة الصراع في الشرق الأوسط ان الطرف الامريكي في كامب ديفيد تخلي عن أول المبادئ التي كان يجب أن يتلزم بها لكي يحقق النجاح.. وهو الظهور بمظهر الحياد.. لأن الانحياز الواضح وممارسة الضغط علي طرف لصالح طرف, وفي قضايا يعلم الجميع ان هذا الطرف لا يستطيع, ولا يملك, هو, أو غيره, التنازل عنها.. كان السبب في فشل مباحثات كامب ديفيد.. ولم يكن الفشل بسبب موقف الجانب الفلسطيني, ولكن كان بسبب موقف الجانب الامريكي.. هذا ما أعلنه كارتر.
وحتي لا يضيع هذا المعني وسط الحماس الامريكي للوصول إلي حل تاريخي يحقق لاسرائيل كل شيء حتي ما يفوق احلامها بالاستيلاء علي القدس كاملة, من أجل انتخابات الرئاسة الأمريكية أو انتخابات مجلس الشيوخ في نيويورك, أو من أجل ضمان التغطية.. إلي الابد علي الصفحة السوداء في تاريخ كلينتون.. قال الرئيس كارتر الحقيقية وهي ان البيانات التي صدرت حول محادثات كامب ديفيد الأخيرة أثارت قلق الجانب العربي.. كما ان احتمال نقل السفارة الامريكية من تل أبيب إلي القدس يمكن ان يكون عقبة أكبر تعوق تحقيق مزيد من التقدم..
وهذه نصيحة من امريكي لا يشك في اخلاصه للمصالح الامريكية لحظة أو في تعاطفه مع اسرائيل وحرصه علي مصالحها.. ومعها نصيحة أخري هي ان الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني يرحبان باستمرار محاولات التوصل إلي حل سلمي في القضايا المتبقية, وقد تحقق تقدم يبعث علي الأمل, فقد تناول الجميع علي الأقل وبصراحة الحلول النهائية لأكثر القضايا اهمية واثارة للخلاف.. وعلينا ان نتذكر انها عملية طويلة المدي ولذا يجب ألا يتخذ أي من الاطراف من المواقف ماقد يجعل جهود المستقبل بالغة الصعوبة.
ليس هناك ابلغ من هذه الكلمات صدقا ودقة في التحليل, وخلاصة رؤية الرجل الذي لم يعد يبحث عن مجد شخصي أكثر مما حصل عليه, ولم يعد مشغولا بلغت الانتخابات, ولكنه مشغول بالقطع بالمصالح الامريكية والإسرائيلية وخلاصة رؤييته أن الجهود الأمريكية في كامب ديفيد الأخيرة خرجت علي قواعد اللعبة.. واللعبة لم تنتهي بعد.. ومازالت هناك آمال كبيرة في ان يضبط الجانب الأمريكي اداءه في الشوط المقبل ولا يخرج علي قواعد اللعبة.. ويستمع إلي نصيحة الحكيم الأمريكي المخضرم.. وعسي ان يصل صوت العقل إلي البيت الأبيض!.